البداية والنهاية/الجزء العاشر/أبو سليمان الداراني
عبد الرحمن بن عطية، وقيل: عبد الرحمن بن أحمد بن عطية، وقيل: عبد الرحمن بن عسكر.
أبو سليمان الداراني، أحد أئمة العلماء العاملين، أصله من واسط، سكن قرية غربي دمشق يقال لها: داريا.
وقد سمع الحديث من: سفيان الثوري، وغيره.
وروى عنه: أحمد بن أبي الحواري، وجماعة.
وأسند الحافظ ابن عساكر من طريقه، قال: سمعت علي بن الحسن بن أبي الربيع الزاهد، يقول: سمعت إبراهيم بن أدهم، يقول: سمعت ابن عجلان يذكر، عن القعقاع بن حكيم، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله ﷺ: «من صلى قبل الظهر أربعا غفر الله ذنوبه يومه ذلك».
وقال أبو القاسم القشيري: حكي عن أبي سليمان الداراني، قال: اختلفت إلى مجلس قاصٍّ فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء، فعدت إليه ثانية فأثر في قلبي بعد ما قمت وفي الطريق، ثم عدت إليه ثالثة فأثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي، فكسرت آلات المخالفات ولزمت الطريق، فحكيت هذه الحكاية ليحيى بن معاذ، فقال: عصفور اصطاد كركيا - يعني: بالعصفور القاص، وبالكركي: أبا سليمان -.
وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان، يقول: ليس لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمع به في الأثر، فإذا سمع به في الأثر عمل به فكان نورا على نور.
وقال الجنيد: قال أبو سليمان: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة.
قال: وقال أبو سليمان: أفضل الأعمال خلاف هوى النفس.
وقال: لكل شيء علم، وعلم الخذلان ترك البكاء من خشية الله.
وقال: لكل شيء صدأ، وصدأ نور القلب شبع البطن.
وقال: كل ما شغلك عن الله من أهل أو مال أو ولد فهو شؤم.
وقال: كنت ليلة في المحراب أدعو ويداي ممدوتان فغلبني البرد فضممت إحداهما وبقيت الأخرى مبسوطة أدعو بها، وغلبتني عيني فنمت فهتف بي هاتف: يا أبا سليمان ! قد وضعنا في هذه ما أصابها، ولو كانت الأخرى لوضعنا فيها.
قال: فآليت على نفسي ألا أدعو إلا ويداي خارجتان حرا كان أو بردا.
وقال: نمت ليلة عن وردي فإذا أنا بحوراء تقول لي: تنام وأنا أربي لك في الخدور منذ خمسمائة عام؟
وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان، يقول: إن في الجنة أنهارا على شاطئيها خيام فيهن الحور، ينشئ الله خلق الحوراء إنشاء، فإذا تكامل خلقها ضربت الملائكة عليهن الخيام، الواحدة منهن جالسة على كرسي من ذهب ميل في ميل، قد خرجت عجيزتها من جانب الكرسي، فيجيء أهل الجنة من قصورهم يتنزهون على شاطئ تلك الأنهار ما شاؤوا ثم يخلو كل رجل بواحدة منهن.
قال أبو سليمان: كيف يكون في الدنيا حال من يريد افتضاض الأبكار على شاطئ تلك الأنهار في الجنة.
وقال: سمعت أبا سليمان يقول: ربما مكثت خمس ليال لا أقرأ بعد الفاتحة بآية واحدة أتفكر في معانيها، ولربما جاءت الآية من القرآن فيطير العقل، فسبحان من يرده بعد.
وسمعته يقول: أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل، ومفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع.
وقال لي يوما: يا أحمد ! جوع قليل، وعري قليل، وفقر قليل، وصبر قليل، وقد انقضت عنك أيام الدنيا.
وقال أحمد: اشتهى أبو سليمان يوما رغيفا حارا بملح فجئته به فعض منه عضة ثم طرحه وأقبل يبكي ويقول: يا رب عجلت لي شهوتي، لقد أطلت جهدي وشقوتي وأنا تائب؟ فلم يذق الملح حتى لحق بالله عز وجل.
قال: وسمعته يقول: ما رضيت عن نفسي طرفة عين، ولو أن أهل الأرض اجتمعوا على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي ما قدروا.
وسمعته يقول: من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة.
وسمعته يقول: من حسن ظنه بالله ثم لم يخفه ويطعه فهو مخدوع.
وقال: ينبغي للخوف أن يكون على العبد أغلب الرجاء، فإذا غلب الرجاء على الخوف فسد القلب.
وقال لي يوما: هل فوق الصبر منزلة؟
فقلت: نعم ! - يعني: الرضا -.
فصرخ صرخة غشي عليه ثم أفاق فقال: إذا كان الصابرون يوفون أجرهم بغير حساب، فما ظنك بالأخرى وهم الذين رضي عنهم.
وقال: ما يسرني أن لي الدنيا وما فيها من أولها إلى آخرها أنفقه في وجوه البر، وإني أغفل عن الله طرفة عين.
وقال: قال زاهد لزاهد: أوصني.
فقال: لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك.
فقال: زدني.
فقال: ما عندي زيادة.
وقال: من أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليلة كوفئ في نهاره، ومن صدق في
ترك شهوة أذهبها الله من قلبه، والله أكرم من أن يعذب قلبا بشهوة تركت له.
وقال: إذا سكنت الدنيا القلب ترحلت منه الآخرة، وإذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزاحمها، وإذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الآخرة، لأن الدنيا لئيمة والآخرة كريمة، وما ينبغي لكريم أن يزاحم لئيما.
وقال أحمد بن أبي الحواري: بتُّ ليلة عند أبي سليمان فسمعته يقول: وعزتك وجلالك لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك، ولئن طالبتني ببخلي لأطالبنك بكرمك، ولئن أمرت بي إلى النار لأخبرن أهل النار أني أحبك.
وكان يقول: لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي.
وكان يقول: ما خلق الله خلقا أهون عليَّ من إبليس، ولولا أن الله أمرني أن أتعوذ منه ما تعوذت منه أبدا، ولو تبدَّى لي ما لطمت إلا صفحة وجهه.
وقال: إن اللص لا يجيء إلى خربة ينقب حيطانها وهو قادر على الدخول إليها من أي مكان شاء، وإنما يجيء إلى البيت المعمور، كذلك إبليس لا يجيء إلا كل قلب عامر ليستنزله وينزله عن كرسيه ويسلبه أعز شيء.
وقال: إذا أخلص العبد انقطعت عنه الوساوس والرؤيا.
وقال: الرؤيا - يعني: الجنابة -.
وقال: مكثت عشرين سنة لم أحتلم فدخلت مكة ففاتتني صلاة العشاء جماعة فاحتلمت تلك الليلة.
وقال: إن من خلق الله قوما لا يشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه فكيف يشتغلون بالدنيا عنه؟.
وقال: الدنيا عند الله أقل من جناح بعوضة فما الزهد فيها، وإنما الزهد في الجنان والحور العين، حتى لا يرى الله في قلبك غيره.
وقال الجنيد: شيء يروى عن أبى سليمان، أنا استحسنته كثيرا قوله: من اشتغل بنفسه شغل عن الناس، ومن اشتغل بربه شغل عن نفسه وعن الناس.
وقال: خير السخاء ما وافق الحاجة.
وقال: من طلب الدنيا حلالا واستغناء عن المسألة واستغناء عن الناس لقي الله يوم يلقاه ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا حلالا مفاخرا ومكاثرا لقي الله يوم يلقاه وهو عليه غضبان.
وقد روي نحو هذا مرفوعا.
وقال: إن قوما طلبوا الغنى في المال وجمعه فأخطأوا من حيث ظنوا، ألا وإنما الغنى في القناعة، وطلبوا الراحة في الكثرة وإنما الراحة في القلة، وطلبوا الكرامة من الخلق وإنما هي في التقوى، وطلبوا التنعم في اللباس الرقيق اللين، والطعام الطيب، والمسكن الأنيق المنيف، وإنما هو في الإسلام والإيمان، والعمل الصالح، والستر والعافية، وذكر الله.
وقال: لولا قيام الليل ما أحببت البقاء في الدنيا وما أحب الدنيا لغرس الأشجار ولا لكري الأنهار، وإنما أحبها لصيام الهواجر وقيام الليل.
وقال: أهل الطاعة في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم.
وقال: ربما استقبلني الفرح في جوف الليل، وربما رأيت القلب يضحك ضحكا.
وقال: إنه لتمرُّ بالقلب أوقات يرقص فيها طربا فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان يقول: بينا أنا ساجد إذ ذهب بي النوم فإذا
أنا بها - يعني: الحوراء - قد ركضتني برجلها فقالت: حبيبي أترقد عيناك والملك يقظان ينظر إلى المتهجدين في تهجدهم؟ بؤسا لعين آثرت لذة نومة على لذة مناجاة العزيز، قم فقد دنا الفراغ ولقي المحبون بعضهم بعضا، فما هذا الرقاد؟ حبيبي وقرَّة عيني أترقد عيناك وأنا أتربى لك في الخدود منذ كذا وكذا؟
قال: فوثبت فزعا وقد عرقت حياء من توبيخها إياي، وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي.
وقال أحمد: دخلت على أبي سليمان فإذا هو يبكي، فقلت: مالك؟
فقال: زجرت البارحة في منامي.
قلت: ما الذي زجرك؟
قال: بينا أنا نائم في محرابي إذ وقفت عليّ جارية تفوق الدنيا حسنا، وبيدها ورقة وهي تقول: أتنام يا شيخ؟
فقلت: من غلبت عينه نام؟
قالت: كلا إن طالب الجنة لا ينام، ثم قالت: أتقرأ؟
قلت: نعم ! فأخذت الورقة من يدها فإذا فيها مكتوب:
لهت بك لذة عن حسن عيش * مع الخيرات في غرف الجنان
تعيش مخلدا لا موت فيها * وتنعم في الجنان مع الحسان
تيقظ من منامك إن خيرا * من النوم التهجد في القرآن
وقال أبو سليمان: أما يستحي أحدكم أن يلبس عباءة بثلاثة دراهم وفي قلبه شهوة بخمسة دراهم؟
وقال أيضا: لا يجوز لأحد أن يظهر للناس الزهد والشهوات في قلبه، فإذا لم يبق في قلبه شيء من الشهوات جاز له أن يظهر إلى الناس الزهد بلبس العبا فإنها علم من أعلام الزهاد، ولو لبس ثوبين أبيضين ليستر بهما أبصار الناس عنه وعن زهده كان أسلم لزهده من لبس العبا.
وقال: إذا رأيت الصوفي يتنوق في لبس الصوف فليس بصوفي، وخيار هذه الأمة أصحاب القطن، أبو بكر الصديق وأصحابه.
وقال غيره: إذا رأيت ضوء الفقير في لباسه فاغسل يديك من فلاحه.
وقال أبو سليمان: الأخ الذي يعظك برؤيته قبل كلامه، وقد كنت أنظر إلى الأخ من أصحابي بالعراق فأنتفع برؤيته شهرا.
وقال أبو سليمان: قال الله تعالى: «عبدي إنك ما استحييت مني أنسيت الناس عيوبك، وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك، ومحوت زلاتك من أم الكتاب ولم أناقشك الحساب يوم القيامة».
وقال أحمد: سألت أبا سليمان عن الصبر فقال: والله إنك لا تقدر عليه في الذي تحب فكيف تقدر عليه فيما تكره؟.
وقال أحمد: تنهدت عنده يوما فقال: إنك مسؤول عنها يوم القيامة، فإن كانت على ذنب سلف فطوبى لك، وإن كانت على فوت دنيا أو شهوة فويل لك.
وقال: إنما رجع من رجع من الطريق قبل وصول ولو وصلوا إلى الله ما رجعوا.
وقال: إنما عصى الله من عصاه لهوانهم عليه، ولو عزوا عليه وكرموا لحجزهم عن معاصيه، وحال بينهم وبينها.
وقال: جلساء الرحمن يوم القيامة من جعل فيهم خصالا: الكرم، والحلم، والعلم، والحكمة، والرأفة، والرحمة، والفضل، والصفح، والإحسان، والبر، والعفو، واللطف.
وذكر أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب محن المشايخ أن أبا سليمان الداراني أخرج من دمشق.
وقالوا: إنه يرى الملائكة ويكلمونه، فخرج إلى بعض الثغور فرأى بعض أهل الشام في منامه أنه إن لم يرجع إليهم هلكوا.
فخرجوا في طلبه وتشفعوا وتذللوا له حتى ردوه.
وقد اختلف الناس في وفاته على أقوال:
فقيل: مات سنة أربع ومائتين.
وقيل: سنة خمس ومائتين.
وقيل: خمس عشرة ومائتين.
وقيل: سنة خمس وثلاثين ومائتين، فالله أعلم.
وقد قال مروان الطاطري يوم مات أبو سليمان: لقد أصيب به أهل الإسلام كلهم.
قلت: وقد دفن في قرية داريا في قبلتها، وقبره بها مشهور وعليه بناء، وقبلته مسجد بناه الأمير ناهض الدين عمر النهرواني، ووقف على المقيمين عنده وقفا يدخل عليهم منه غلة، وقد جدد مزاره في زماننا هذا.
ولم أر ابن عساكر تعرض لموضع دفنه بالكلية، وهذا منه عجيب.
وروى ابن عساكر، عن أحمد بن أبي الحواري، قال: كنت أشتهي أن أرى أبا سليمان في المنام فرأيته بعد سنة.
فقلت له: ما فعل الله بك يا معلم؟
فقال: يا أحمد دخلت يوما من باب الصغير فرأيت حمل شيح فأخذت منه عودا فما أدري تخللت به أو رميته، فأنا في حسابه إلى الآن.
وقد توفي ابنه سليمان بعده بنحو من سنتين رحمهما الله تعالى.