البداية والنهاية/الجزء العاشر/خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان
وهو الملقب: بالناقص لنقصه الناس من أعطياتهم ما كان زاده الوليد بن يزيد في أعطياتهم، وهي عشرة عشرة، ورده إياهم إلى ما كانوا عليه في زمن هشام.
ويقال: إن أول من لقبه بذلك مروان بن محمد.
بويع له بالخلافة بعد مقتل الوليد بن يزيد، وذلك ليلة الجمعة لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة من هذه السنة - حتى سنة ست وعشرين ومائة - وكان فيه صلاح وورع قبل ذلك، فأول ما عمل انتقاصه من أرزاق الجند ما كان الوليد زادهم، وذلك في كل سنة عشرة عشرة، فسمي الناقص لذلك.
ويقال في المثل الأشج والناقص أعدل خلفاء بني مروان - يعني: عمر بن عبد العزيز وهذا - ولكن لم تطل أيامه، فإنه توفي من آخر هذه السنة، واضطربت عليه الأمور، وانتشرت الفتن، واختلفت كلمة بني مروان.
فنهض سليمان بن هشام، وكان معتقلا في سجن الوليد بعمان، فاستحوز على أموالها وحواصلها، وأقبل إلى دمشق، فجعل يلعن الوليد ويعيبه ويرميه بالكفر، فأكرمه يزيد ورد عليه أمواله التي كان أخذها من الوليد، وتزوج يزيد أخت سليمان، وهي أم هشام بنت هشام.
ونهض أهل حمص إلى دار العباس بن الوليد التي عندهم فهدموها، وحبسوا أهله وبنيه، وهرب هو من حمص، فلحق بيزيد بن الوليد إلى دمشق، وأظهر أهل حمص الأخذ بدم الوليد بن يزيد، وأغلقوا أبواب البلد، وأقاموا النوائح والبواكي على الوليد، وكاتبوا الأجناد في طلب الأخذ بالثأر، فأجابهم إلى ذلك طائفة كبيرة منهم، على أن يكون الحكم بن الوليد بن يزيد الذي أخذ له العهد هو الخليفة، وخلعوا نائبهم، وهو مروان بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان، ثم قتلوه وقتلوا ابنه وأمروا عليهم معاوية بن يزيد بن حصين.
فلما انتهى خبرهم إلى يزيد بن الوليد كتب إليهم كتابا مع يعقوب بن هانئ ومضمون الكتاب: أنه يدعوا إلى أن يكون الأمر شورى.
فقال عمرو بن قيس: فإذا كان الأمر كذلك فقد رضينا بولي عهدنا الحكم بن الوليد، فأخذ يعقوب بلحيته، وقال: ويحك ! و كان هذا الذي تدعو إليه يتيما تحت حجرك لم يحل لك أن تدفع إليه ماله فكيف أمر الأمة، فوثب أهل حمص على رسل يزيد بن الوليد، فطردوهم عنهم وأخرجوهم من بين أظهرهم، وقال لهم أبو محمد السفياني: لو قدمت دمشق لم يختلف علي منهم اثنان، فركبوا معه وساروا نحو دمشق، وقد أمروا عليهم السفياني، فتلقاهم سليمان بن هشام في جيش كثيف قد جهزهم معه يزيد، وجهز أيضا عبد العزيز بن الوليد في ثلاثة آلاف يكونون عند ثنية العقاب، وجهز هشام بن مصاد المزي في ألف وخمسمائة ليكونوا على عقبة السلمية، فخرج أهل حمص، فساروا وتركوا جيش سليمان ابن هشام ذات اليسار، وتعدوه فلما سمع بهم سليمان ساق في طلبهم فلحقهم عند السليمانية، فجعلوا الزيتون عن إيمانهم والجبل عن شمائلهم، والحيات من خلفهم، ولم يبق تخلص إليهم إلا من جهة واحدة، فاقتتلوا هنالك في قبالة الحر قتالا شديدا، فقتل طائفة كبيرة من الفريقين، فبينما هم كذلك إذ جاء عبد العزيز بن الوليد بمن معه، فحمل على أهل حمص، فاخترق جيشهم حتى ركب التل الذي في وسطهم، وكانت الهزيمة، فهرب أهل حمص وتفرقوا فأتبعهم الناس يقتلون ويأسرون ثم تنادوا بالكف عنهم، على أن يبايعوا ليزيد بن الوليد وأسروا منهم جماعة، منهم أبو محمد السفياني، ويزيد بن خالد بن معاوية، ثم ارتحل سليمان وعبد العزيز فنزلا عذراء، ومعهم الجيوش وأشراف الناس وأشراف أهل حمص من الأساري، ومن استجاب من غير أسر، بعد ما قتل منهم ثلاثمائة نفس، فدخلوا بهم على يزيد بن الوليد، فأقبل عليهم، وأحسن إليهم، وصفح عنهم، وأطلق الأعطيات لهم، لاسيما لأشرافهم وولى عليهم الذي اختاروه وهو معاوية بن يزيد بن الحصين، وطابت عليه أنفسهم، وأقاموا عنده في دمشق سامعين مطيعين له.
وفيها: بايع أهل فلسطين يزيد بن سليمان بن عبد الملك، وذلك أن بني سليمان كانت لهم أملاك هناك، وكانوا يتركونها يبدلونها لهم، وكان أهل فلسطين يحبون مجاورتهم، فلما قتل الوليد بن يزيد كتب سعيد بن روح بن زنباغ - وكان رئيس تلك الناحية - إلى يزيد بن سليمان بن عبد الملك يدعوهم إلى المبايعة له فأجابوه إلى ذلك، فلما بلغ أهل الأردن خبرهم بايعوا أيضا محمد بن عبد الملك بن مروان وأمروه عليهم، فلما انتهى خبرهم إلى يزيد بن الوليد أمير المؤمنين بعث إليهم الجيوش مع سليمان بن هشام في الدماشقة وأهل حمص، الذين كانوا مع السفياني فصالحهم أهل الأردن أولا ورجعوا إلى الطاعة، وكذلك أهل فلسطين، وكتب يزيد بن الوليد ولاية الإمرة بالرملة وتلك النواحي إلى أخيه إبراهيم بن الوليد، واستقرت الممالك هنالك، وقد خطب أمير المؤمنين يزيد بن الوليد الناس بدمشق فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:
أما بعد أيها الناس أما والله ما خرجت أشرا ولا بطرا، ولا حرصا على الدنيا ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي إني لظلوم لنفسي، إن لم يرحمني ربي فإني هالك، ولكني خرجت غضبا لله ورسوله ولدينه، وداعيا إلى الله وكتابه وسنة نبيه محمد ﷺلما هدمت معالم الدين، وأطفئ نور أهل التقوى، وظهر الجبار العنيد المستحل لكل حرمة، والراكب كل بدعة، مع أنه والله ما كان مصدقا بالكتاب، ولا مؤمنا بيوم الحساب، وإنه لابن عمي في النسب، وكفوي بالحسب، فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره، وسألته أن لا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، وسعيت فيه حتى أراح الله منه العباد والبلاد بحول الله وقوته لا بحولي ولا بقوتي.
أيها الناس: إن لكم علي أن لا أضع حجرا على حجر، ولا لبنة على لبنة، ولا أكرى نهرا، و لا أكثر مالا ولا أعطية زوجة، ولا ولدا ولا أنقل مالا من بلد إلى بلد حتى أسد ثغر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يغنيهم، فإن فضل عن ذلك فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ممن هو أحوج إليه، ولا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم، ولا أغلق بابي دونكم، فيأكل قويكم ضعيفكم ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم، ويقطع سبلهم وإن لكم عندي أعطياتكم في كل سنة وأرزاقكم في كل شهر حتى تستدر المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن أنا وفيت لكم بما قلت فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أوف لكم فلكم أن تخلعوني وإلا أن تستتيبوني فإن تبت قبلتم مني، وإن علمتم أحدا من أهل الصلاح والدين يعطيكم من نفسه ما مثل ما أعطيكم، فأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من يبايعه، ويدخل في طاعته.
أيها الناس ! إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة طاعة الله فمن أطاع الله فأطيعوه ما أطاع الله، فإذا عصى أو دعا إلى معصية فهو أهل أن يعصى ولا يطاع، بل يقتل ويهان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وفي هذه السنة: عزل يزيد ين الوليد يوسف بن عمر عن إمرة العراق، لما ظهر منه من الحنق على اليمانية، وهم قوم خالد بن عبد الله القسري، حتى قتل الوليد بن يزيد، وكان قد سجن غالب من ببلاده منهم، وجعل الأرصاد على الثغور خوفا من جند الخليفة، فعزله عنها أمير المؤمنين يزيد بن الوليد، وولى عليها منصور بن جمهور مع بلاد السند وسجستان وخراسان.
وقد كان منصور بن جمهور أعرابيا جلفا وكان يدين بمذهب الغيلانية القدرية، ولكن كانت له آثار حسنة، وعناء كثير في مقتل الوليد بن يزيد، فحظي بذلك عند يزيد بن الوليد.
ويقال: إنه لما فرغ الناس من الوليد ذهب من فوره إلى العراق فأخذ البيعة من أهلها إلى يزيد، وقرر بالأقاليم نوابا وعمالا وكر راجعا إلى دمشق في آخر رمضان، فلذلك ولاه الخليفة ما ولاه، والله أعلم.
وأما يوسف بن عمر فإنه فر من العراق فلحق ببلاد البلقاء، فبعث إليه أمير المؤمنين يزيد فأحضره إليه، فلما وقف بين يديه أخذ بلحيته - وكان كبير اللحية جدا، ربما كانت تجاوز سرته وكان قصير القامة - فوبخه وأنبه ثم سجنه وأمر باستخلاص الحقوق منه.
ولما انتهى منصور بن جمهور إلى العراق قرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إليهم في كيفية مقتل الوليد، وأن الله أخذه أخذ عزيز مقتدر، وأنه قد ولى عليهم منصور بن جمهور لما يعلم من شجاعته ومعرفته بالحرب، فبايع أهل العراق ليزيد بن الوليد، وكذلك أهل السند وسجستان.
وأما نصر بن سيار نائب خراسان فإنه امتنع من السمع والطاعة لمنصور بن جمهور، وأبى أن ينقاد لأوامره، وقد كان نصر هذا جهز هدايا كبيرة للوليد بن يزيد فاستمرت له.
وفي هذه السنة: كتب مروان الملقب: بالحمار كتابا إلى عمر بن يزيد أخي الوليد بن يزيد، يحثه على القيام بطلب دم أخيه الوليد، وكان مروان يومئذ أميرا على أذربيجان وأرمينية، ثم إن يزيد بن الوليد عزل منصور بن جمهور عن ولاية العراق وولى عليها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وقال له: إن أهل العراق يحبون أباك فقد وليتكها.
وذلك في شوال، وكتب له إلى أمراء الشام الذين بالعراق يوصيهم به خشية أن يمتنع منصور بن جمهور من تسليم البلاد إليه، فسلم إليه وأطاع وسلم.
وكتب الخليفة إلى نصر بن سيار باستمراره بولاية خراسان مستقلا بها، فخرج عليه رجل يقال له: الكرماني، لأنه ولد بكرمان، وهو: أبو علي جديع بن علي بن شبيب المغني، واتبعه خلق كثير بحيث إنه كان يشهد الجمعة في نحو من ألف وخمسمائة، وكان يسلم على نصر بن سيار ولا يجلس عنده، فتحير نصر بن سيار وأمراؤه فيما يصنع به، فاتفق رأيهم بعد جهد على سجنه، فسجن قريبا من شهر.
ثم أطلقه فاجتمع إليه ناس كثير، وجم غفير، وركبوا معه، فبعث إليهم نصر من قاتلهم فقتلهم وقهرهم وكسرهم واستخف جماعات من أهل خراسان بنصر بن سيار وتلاشوا أمره وحرمته، وألحوا عليه في أعطياتهم وأسمعوه غليظ ما يكره وهو على المنبر، بسفارة سلم بن أحوز أدى إليه ذلك، وخرجت الباعة من المسجد الجامع وهو يخطب، وانفض كثير من الناس عنه.
فقال لهم نصر فيما قال: والله لقد نشرتكم وطويتكم وطويتكم ونشرتكم فما عندي عشرة منكم على دين، فاتقوا الله فوالله لئن اختلف فيكم سيفان ليتمنين الرجل منكم أن ينخلع من أهله وماله وولده، ولم يكن رآها، ثم تمثل بقول النابغة:
فإن يغلب شقاؤكم عليكم * فإني في صلاحكم سعيت
وقال الحارث بن عبد الله بن الحشرج بن الورد بن المغيرة الجعد:
أبيت أرعى النجوم مرتفقا * إذا استقلت نحوي أوائلها
من فتنة أصبحت مجللة * قد عم أهل الصلاة شاملها
من بخراسان والعراق ومن * بالشام كل شجاه شاغلها
يمشي السفيه الذي يعنف بالـ * ـجهل سواء فيها وعاقلها
فالناس منها في لون مظلمة * دهماء ملتجة غياطلها
والناس في كربة يكاد لها * تنبذ أولادها حواملها
يغدون منها في كل مبهمة * عمياء تمنى لهم غوائلها
لا ينظر الناس من عواقبها * إلا التي لا يبين قائلها
كرغوة البكر أو كصيحة حبـ * ـلى طرقت حولها قوابلها
فجاء فينا تزري بوجهته * فيها خطوب حمر زلازلها
وفي هذه السنة: أخذ الخليفة البيعة من الأمراء وغيرهم بولاية العهد من بعده لأخيه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، ثم من بعد إبراهيم لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان، وذلك بسبب مرضه الذي مات فيه.
وكان ذلك في شهر ذي الحجة منها، وقد حرضه على ذلك جماعة من الأمراء والأكابر والوزراء.
وفيها: عزل يزيد عن إمرة الحجاز يوسف بن محمد الثقفي وولى عليها عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، فقدمها في أواخر ذي القعدة منها.
وفيها: أظهر مروان الحمار الخلاف ليزيد بن الوليد، وخرج من بلاد أرمينية يظهر أنه يطلب بدم الوليد بن يزيد، فلما وصل إلى حران أظهر الموافقة، وبايع لأمير المؤمنين يزيد بن الوليد.
وفيها: أرسل إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أبا هاشم بكر بن ماهان إلى أرض خراسان، فاجتمع بجماعة من أهل خراسان بمرو، فقرأ عليهم كتاب إبراهيم بن محمد الإمام إليه وإليهم، ووصيته، فتلقوا ذلك بالقبول، وأرسلوا معه ما كان عندهم من النفقات.
وفي سلخ ذي القعدة: وقيل: في سلخ ذي الحجة، وقيل: لعشر مضين منه، وقيل: بعد الأضحى منها كان وفاة أمير المؤمنين.