البداية والنهاية/الجزء العاشر/استقرار أبي العباس السفاح واستقلاله بالخلافة وما اعتمده في أيامه من السيرة الحسنة
قد تقدم أنه أول ما بويع له بالخلافة بالكوفة يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الآخر.
وقيل: الأول من هذه السنة، سنة ثنتين وثلاثين ومائة.
ثم جرد الجيوش إلى مروان فطردوه عن المملكة وأجلوه عنها، وما زالوا خلفه حتى قتلوه ببوصير من بلاد الصعيد، بأرض مصر، في العشر الأخير من ذي الحجة من هذه السنة على ما تقدم بيانه، وحينئذ استقل السفاح بالخلافة واستقرت يده على بلاد العراق وخراسان والحجاز والشام والديار المصرية، خلا بلاد الأندلس، فإنه لم يحكم عليها ولا وصل سلطانه إليها، وذلك أن بعض من دخلها من بني أمية استحوذ عليها وملكها، كما سيأتي بيانه.
وقد خرج على السفاح في هذه السنة طوائف، فمنهم: أهل قنسرين بعد ما بايعوه على يدي عمه عبد الله بن علي وأقر عليهم أميرهم مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابي، وكان من أصحاب مروان وأمرائه، فخلع السفاح ولبس البياض، وحمل أهل البلد على ذلك فوافقوه.
وكان السفاح يومئذ بالحيرة، وعبد الله بن علي مشغول بالبلقاء يقاتل بها حبيب بن مرة المزي ومن وافقه من أهل البلقاء والبثنية وحوران على خلع السفاح، فلما بلغه عن أهل قنسرين ما فعلوا صالح حبيب بن مرة وسار نحو قنسرين، فلما اجتاز بدمشق - وكان بها أهله وثقله - استخلف عليها أبا غانم، عبد الحميد بن ربعي الكناني في أربعة آلاف.
فلما جاوز البلد وانتهى إلى حمص نهض أهل دمشق مع رجل يقال له: عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة فخلعوا السفاح وبيضوا وقتلوا الأمير أبا غانم وقتلوا جماعة من أصحابه وانتهبوا ثقل عبد الله بن علي بن وحواصله، ولم يتعرضوا لأهله.
وتفاقم الأمر على عبد الله وذلك أن أهل قنسرين تراسلوا مع أهل حمص وتزمروا واجتمعوا على أبي محمد السفياني، وهو: أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فبايعوه بالخلافة وقام معه نحو من أربعين ألفا، فقصدهم عبد الله بن علي فالتقوا بمرج الأخرم فاقتتلوا مع مقدمة السفياني وعليها أبو الورد فاقتتلوا قتالا شديدا، وهزموا عبد الله عبد الصمد، وقتل من الفريقين ألوف، فتقدم إليهم عبد الله بن علي ومعه حميد بن قحطبة فاقتتلوا قتالا شديدا جدا، وجعل أصحاب عبد الله يفرون وهو ثابت هو وحميد.
وما زال حتى هزم أصحاب أبي الورد، وثبت أبو الورد في خمسمائة فارس من أهل بيته وقومه، فقتلوا جميعا وهرب أبو محمد السفياني ومن معه حتى لحقوا بتدمر، وأمن عبد الله أهل قنسرين وسودوا وبايعوه ورجعوا إلى الطاعة، ثم كر عبد الله راجعا إلى دمشق وقد بلغه ما صنعوا، فلما دنا منها تفرقوا عنها ولم يكن منهم قتال، فأمنهم ودخلوا في الطاعة.
وأما أبو محمد السفياني فإنه مازال مضيعا ومشتتا حتى لحق بأرض الحجاز فقاتله نائب أبي جعفر المنصور في أيام المنصور، فقتله وبعث برأسه وبابنين له أخذهما أسيرين فأطلقما المنصور في أيامه.
وقد قيل: إن وقعة السفياني يوم الثلاثاء آخر يوم من ذي الحجة سنة ثنتين وثلاثين ومائة، فالله أعلم.
وممن خلع السفاح أيضا: أهل الجزيرة حين بلغهم أن أهل قنسرين خلعوا، فوافقهم وبيضوا وركبوا إلى نائب حران من جهة السفاح - وهو: موسى بن كعب - وكان في ثلاثة آلاف قد اعتصم بالبلد، فحاصروه قريبا من شهرين.
ثم بعث السفاح أخاه أبا جعفر المنصور فيمن كان بواسطة محاصري ابن هبيرة، فمر في مسيره إلى حران بقرقيسيا وقد بيضوا فغلقوا أبوابها دونه، ثم مر بالرقة وعليها بكار بن مسلم وهم كذلك، ثم بحاجر وعليها إسحاق بن مسلم فيمن معه من أهل الجزيرة يحاصرونها فرحل إسحاق عنها إلى الرها.
وخرج موسى بن كعب فيمن معه من جند حران فتلقاه المنصور ودخلوا في جيشه، وقدم بكار بن مسلم على أخيه إسحاق بن مسلم بالرها فوجهه إلى جماعة ربيعه بدارا وماردين، ورئيسهم حروري يقال له: بريكة، فصارا حزبا واحدا، فقصد إليهم أبو جعفر فقاتلهم قتالا شديدا، فقتل بريكة في المعركة، وهرب بكار إلى أخيه بالرها، فاستخلفه بها ومضى بمعظم العسكر حتى نزل سميساط وخندق على عسكره، وأقبل أبو جعفر فحاصر بكارا بالرها، وجرت له معه وقعات.
وكتب السفاح إلى عمه عبد الله بن علي أن يسير إلى سميساط، وقد اجتمع على إسحاق بن مسلم ستون ألفا من أهل الجزيرة، فسار إليهم عبد الله واجتمع إليه أبو جعفر المنصور، فكاتبهم إسحاق وطلب منهم الأمان فأجابوه إلى ذلك، على إذن أمير المؤمنين.
وولى السفاح أخاه أبا جعفر المنصور الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، فلم يزل عليها حتى أفضت إليه الخلافة بعد أخيه، ويقال: إن إسحاق بن مسلم العقيلي إنما طلب الأمان لما تحقق أن مروان قد قتل، وذلك بعد مضي سبعة أشهر وهو محاصر، وقد كان صاحبا لأبي جعفر المنصور فآمنه.
وفي هذه السنة: ذهب أبو جعفر المنصور عن أمر أخيه السفاح إلى أبي مسلم الخراساني وهو أميرها، ليستطلع رأيه في قتل أبي سلمة، لأنه كان يريد أن يصرف الخلافة عنهم، فيسأله هل ذلك كان عن ممالأة أبي مسلم لأبي سلمة في ذلك أم لا؟
فسكت القوم، فقال السفاح: لئن كان هذا عن رأيه إنا لَبعَرَ بلاء عظيم، إلا أن يدفعه الله عنا.
قال أبو جعفر: فقال لي أخي: ما ترى؟
فقلت: الرأي رأيك.
فقال: إنه ليس أحد أخص بأبي مسلم منك، فاذهب إليه فاعلم لي علمه، فإن كان عن رأيه احتلنا له، وإن لم يكن عن رأيه طابت أنفسنا.
قال أبو جعفر: فخرجت إليه قاصدا على وجل.
قال المنصور: فلما وصلت إلى الري إذا كتاب أبي مسلم إلى نائبها يستحثني إليه في المسير، فازددت وجلا فلما انتهيت إلى نيسابور إذا كتابه يستحثني أيضا.
وقال لنائبها: لا تدعه يقر ساعة واحدة.
فإن أرضك بها خوارج، فانشرحت لذلك، فلما صرت من مرو على فرسخين، خرج يتلقاني ومعه الناس، فلما واجهني ترجل فقبل يدي، فأمرته فركب.
فلما دخلت مرو نزلت في داره، فمكث ثلاثا لا يسألني في أي شيء جئت، فلما كان اليوم الرابع سألني: ما أقدمك؟
فأخبرته بالأمر.
فقال: أفعلها أبو سلمة؟
أنا أكفيكموه.
فدعا مرَّار بن أنس الضبي فقال: اذهب إلى الكوفة فحيث لقيت أبا سلمة فاقتله، وانته في ذلك إلى رأي الإمام.
فقدم مرَّار الكوفة الهاشمية، وكان أبو سلمة يسمر عند السفاح، فلما خرج قتله مرِّار، وشاع أن الخوارج قتلوه، وغلقت البلد.
ثم صلى عليه يحيى بن محمد بن علي أخو أمير المؤمنين، ودفن بالهاشمية، وكان يقال له: وزير آل محمد.
ويقال لأبي مسلم: أمير آل محمد.
قال الشاعر:
إن الوزير وزير آل محمد * أودى فمن يشناك كان وزيرا
ويقال: إن أبا جعفر إنما سار إلى أبي مسلم بعد قتل أبي سلمة وكان معه ثلاثون رجلا على البريد، منهم: الحجاج بن أرطأة، وإسحاق بن الفضل الهاشمي، وجماعة من السادات.
ولما رجع أبو جعفر من خراسان قال لأخيه: لست بخليفة ما دام أبو مسلم حيا حتى تقتله.
لما رأى من طاعة العساكر له، فقال له السفاح: اكتمها. فسكت.
ثم إن السفاح بعث أخاه أبا جعفر إلى قتال بن هبيرة بواسط، فلما اجتاز بالحسن بن قحطبة أخذه معه، فلما أحيط بابن هبيرة كتب إلى محمد بن عبد الله بن الحسن ليبايع له بالخلافة فأبطأ عليه جوابه، فمال إلى مصالحة أبي جعفر، فاستأذن أبو جعفر أخاه السفاح في ذلك فأذن له في المصالحة، فكتب له أبو جعفر كتابا بالصلح، فمكث ابن هبيرة يشاور فيه العلماء أربعين يوما.
ثم خرج يزيد بن عمر بن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلاثمائة من البخارية، فلما دنا من سرادق أبي جعفر همَّ أن يدخل بفرسه فقال الحاجب سلام: انزل أبا خالد. فنزل.
وكان حول السرادق عشرة آلاف من أهل خراسان، ثم أذن له في الدخول فقال: أنا ومن معي؟
قال: لا ! بل أنت وحدك.
فدخل ووضعت له وسادة فجلس عليها، فحادثه أبو جعفر ساعة ثم خرج من عنده فأتبعه أبو جعفر بصره، ثم جعل يأتيه يوما بعد يوم في خمسمائة فارس وثلاثمائة راجل، فشكوا ذلك إلى أبي جعفر فقال أبو جعفر للحاجب: مره فليأت في حاشيته.
فكان يأتي في ثلاثين نفسا، فقال الحاجب: كأنك تأتي متأهبا؟
فقال: لو أمرتموني بالمشي لمشيت إليكم.
ثم كان يأتي في ثلاثة أنفس، وقد خاطب ابن هبيرة يوما لأبي جعفر فقال في غبون كلامه: يا هناه - أو قال: يا أيها المرء -.
ثم اعتذر إليه بأنه قد سبق لسانه إلى ذلك، فأعذره.
وقد كان السفاح كتب إلى أبي مسلم يستشيره في مصالحة ابن هبيرة فنهاه عن ذلك.
وكان السفاح لا يقطع أمرا دونه، فلما وقع الصلح على يدي أبي جعفر لم يحب السفاح ذلك ولم يعجبه، وكتب إلى أبي جعفر يأمر بقتله، فراجعه أبو جعفر مرارا لا يفيده ذلك شيئا، حتى جاء كتاب السفاح: أن أقتله لا محالة، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، كيف يعطي الأمان وينكث؟ هذا فعل الجبابرة.
وأقسم عليه في ذلك.
فأرسل إليه أبو جعفر طائفة من الخراسانية فدخلوا عليه وعنده ابنه داود وفي حجره صبي صغير، وحوله مواليه وحاجبه، فدافع عنه ابنه حتى قتل، وقتل خلق من مواليه، وخلصوا إليه، فألقى الصبي من حجره وخرَّ ساجدا، فقتل وهو ساجد، واضطرب الناس، فنادى أبو جعفر في الناس بالأمان إلا عبد الملك بن بشر وخالد بن سلمة المخزومي، وعمر بن ذر.
فسكن الناس ثم استؤمن لبعض هؤلاء وقتل بعضا.
وفي هذه السنة: بعث أبو مسلم الخراساني محمد بن الأشعث إلى فارس، وأمره أن يأخذ عمال أبي سلمة الخلال فيضرب أعناقهم، ففعل ذلك.
وفيها: ولى السفاح أخاه يحيى بن محمد الموصل وأعمالها، وولى عمه داود مكة والمدينة واليمن واليمامة، وعزله عن الكوفة وولى مكانه عليها عيسى بن موسى، وولى قضاءها ابن أبي ليلى، وكان على نيابة البصرة سفيان بن معاوية المهلبي، وعلى قضائها الحجاج بن أرطأة، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى فارس محمد بن الأشعث.
وعلى أرمينية وأذربيجان والجزيرة أبو جعفر المنصور، وعلى الشام وأعمالها عبد الله بن علي عم السفاح، وعلى مصر أبو عون عبد الملك بن يزيد.
وعلى خراسان وأعمالها أبو مسلم الخراساني، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك.
وحج بالناس فيها داود بن علي.
ذكر من توفي فيها من الأعيان: