البداية والنهاية/الجزء العاشر/البيعة لموسى الهادي
ذكرنا أن المهدي ألح على عيسى بن موسى أن يخلع نفسه وهو مع كل ذلك يمتنع، وهو مقيم بالكوفة، فبعث إليه المهدي أحد القواد الكبار وهو: أبو هريرة محمد بن فروخ في ألف من أصحابه لإحضاره إليه، وأمر كل واحد منهم أن يحمل طبلا، فإذا واجهوا الكوفة عند إضاءة الفجر ضرب كل واحد منهم على طبله.
ففعلوا ذلك فارتجت الكوفة، وخاف عيسى بن موسى، فلما انتهوا إليه دعوه إلى حضرة الخليفة فأظهر أنه يشتكي، فلم يقبلوا ذلك منه بل أخذوه معهم فدخلوا به على الخليفة في يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم من هذه السنة، فاجتمع عليه وجوه بني هاشم والقضاة والأعيان وسألوه في ذلك وهو يمتنع، ثم لم يزل الناس به بالرغبة والرهبة حتى أجاب يوم الجمعة لأربع مضين من المحرم بعد العصر.
وبويع لولدي المهدي: موسى، وهارون الرشيد، صباحة يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم وجلس المهدي في قبة عظيمة في إيوان الخلافة، ودخل الأمراء فبايعوا ثم نهض فصعد المنبر وجلس ابنه موسى الهادي تحته، وقام عيسى بن موسى على أول درجة، وخطب المهدي فأعلم الناس بما وقع من خلع عيسى بن موسى نفسه وأنه قد حلل الناس من الأيمان التي له في أعناقهم، وجعل ذلك إلى موسى الهادي.
فصدق عيسى بن موسى ذلك وبايع المهدي على ذلك، ثم نهض الناس فبايعوا الخليفة على حسب مراتبهم وأسنانهم، وكتب على عيسى بن موسى مكتوبا مؤكدا بالأيمان البالغة من الطلاق والعتاق، وأشهد عليه جماعة الأمراء والوزراء وأعيان بني هاشم وغيرهم، وأعطاه ما ذكرنا من الأموال وغيرها.
وفيها: دخل عبد الملك بن شهاب المسمعي مدينة بإربد من الهند في جحفل كبير فحاصروها ونصبوا عليها المجانيق، ورموها بالنفط فأحرقوا منها طائفة، وهلك بشر كثير من أهلها، وفتحوها عنوة وأرادوا الانصراف فلم يمكنهم ذلك لاعتلاء البحر، فأقاموا هنالك فأصابهم داء في أفواههم يقال له: حمام قر فمات منهم ألف نفس منهم: الربيع بن صبيح، فلما أمكنهم المسير ركبوا في البحر فهاجت عليهم ريح فغرق طائفة أيضا، ووصل بقيتهم إلى البصرة ومعهم سبي كثير، فيهم: بنت ملكهم.
وفيها: حكم المهدي بإلحاق ولد أبي بكر الثقفي إلى ولاء رسول الله ﷺوقطع نسبهم من ثقيف، وكتب بذلك كتابا إلى والي البصرة.
وقطع نسبه من زياد ومن نسب نافع ففي ذلك يقول بعض الشعراء وهو خالد النجار:
إن زيادا ونافعا وأبا * بكرة عندي من أعجب العجب
ذا قرشي كما يقول وذا * مولى وهذا بزعمه عربي
وقد ذكر ابن جرير أن نائب البصرة لم ينفذ ذلك.
وفي هذه السنة: حج بالناس المهدي واستخلف على بغداد ابنه موسى الهادي، واستصحب معه ابنه هارون الرشيد وخلقا من الأمراء، منهم: يعقوب بن داود على منزلته ومكانته.
وكان الحسن بن إبراهيم قد هرب من الخادم فلحق بأرض الحجاز، فاستأمن له يعقوب بن داود فأحسن المهدي صلته وأجزل جائزته، وفرق المهدي في أهل مكة مالا كثيرا جدا، كان قد قدم معه بثلاثين ألف ألف درهم ومائة ألف ثوب، وجاء من مصر ثلثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فأعطاها كلها في أهل مكة والمدينة.
وشكت الحجبة إلى المهدي أنهم يخافون على الكعبة أن تنهدم من كثرة ما عليها من الكساوي، فأمر بتجريدها، فلما انتهوا إلى كساوي هشام بن عبد الملك وجدها من ديباج ثخين جدا فأمر بإزالتها وبقيت كساوي الخلفاء قبله وبعده، فلما جردها طلاها بالخلوف وكساها كسوة حسنة جدا.
ويقال: إنه استفتى مالكا في إعادة الكعبة إلى ما كانت عليه من بناية ابن الزبير، فقال مالك: دعها فإني أخشى أن يتخذها الملوك ملعبة. فتركها على ما هي.
وحمل له محمد بن سليمان نائب البصرة الثلج إلى مكة، وكان أول خليفة حمل له الثلج إليها.
ولما دخل المدينة وسَّع المسجد النبوي، وكان فيه مقصورة فأزالها وأراد أن ينقص من المنبر ما كان زاده معاوية بن أبي سفيان، فقال له مالك: إنه يخشى أن ينكسر خشبه العتيق إذا زعزع، فتركه.
وتزوج من المدينة رقية بنت عمرو العثمانية، وانتخب من أهلها خمسمائة من أعيانها ليكونوا حوله حرسا بالعراق وأنصارا وأجرى عليهم أرزاقا غير أعطياتهم وأقطعهم أقطاعا معروفة بهم.
وفيها توفي: الربيع بن صبيح، وسفيان بن حسين، أحد أصحاب الزهري.