البداية والنهاية/الجزء العاشر/باب ذكر ما جاء في محنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل
في أيام المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق بسبب القرآن العظيم، وما أصابه من الحبس الطويل، والضرب الشديد، والتهديد بالقتل بسوء العذاب وأليم العقاب، وقلة مبالاته بما كان منهم في ذلك إليه، وصبره عليه وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم.
وكان أحمد عالما بما ورد بمثل حاله من الآيات المتلوة، والأخبار المأثورة، وبلغه ما أوصى به في المنام واليقظة فرضي وسلم إيمانا واحتسابا، وفاز بخير الدنيا ونعيم الآخرة، وهيأه الله بما آتاه من ذلك لبلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله من أوليائه، وألحق به محببيه فيما نال من كرامة الله تعالى إن شاء الله من غير بليه، وبالله التوفيق والعصمة.
قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم { الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت: 1 - 3] .
وقال الله تعالى: { وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [لقمان: 17] .
في سواها معنى ما كتبنا.
وقد روى الإمام أحمد الممتحن في مسنده قائلا فيه: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عاصم بن بهدلة، سمعت مصعب بن سعد، يحدث عن سعد، قال: سألت رسول الله ﷺ: أي الناس أشد بلاء؟
فقال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الله الرجل على حسب دينه، فإن كان رقيق الدين ابتلي على حسب ذلك، وإن كان صلب الدين ابتلي على حسب ذلك، وما زال البلاء بالرجل حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة».
وقد روى مسلم في صحيحه قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، ثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قال رسول الله ﷺ: «ثلاثة من كن فيه فقد وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه». أخرجاه في الصحيحين.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا أبو المغيرة، ثنا صفوان بن عمر السكسكي، ثنا عمرو بن قيس السكوني، ثنا عاصم بن حميد، قال: سمعت معاذ بن جبل، يقول: إنكم لم تروا إلا بلاء وفتنة، ولن يزداد الأمر إلا شدة، ولا الأنفس إلا شحا.
وبه قال معاذ: لن تروا من الأئمة إلا غلطة، ولن تروا أمرا يهولكم ويشتد عليكم إلا حضر بعده ما هو أشد منه.
قال البغوي: سمعت أحمد، يقول: اللهم رضنا.
وروى البيهقي، عن الربيع، قال: بعثني الشافعي بكتاب من مصر إلى أحمد بن حنبل، فأتيته وقد انفتل من صلاة الفجر فدفعت إليه الكتاب فقال: أقرأته؟
فقلت: لا !
فأخذه فقرأه فدمعت عيناه، فقلت: يا أبا عبد الله ! وما فيه؟
فقال: يذكر أنه رأى رسول الله ﷺفي المنام فقال: «اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل وأقرأ عليه السلام مني وقل له: إنك ستمتحن وتدعى إلى القول بخلق القرآن فلا تجبهم، ويرفع الله لك علما إلى يوم القيامة».
قال الربيع: فقلت: حلاوة البشارة.
فخلع قميصه الذي يلي جلده فأعطانيه، فلما رجعت إلى الشافعي أخبرته فقال: إني لست أفجعك فيه، ولكن بله بالماء وأعطينيه حتى أتبرك به.