صيد الخاطر/فصل: أكثر الزاد فإن السفر طويل
فصل: أكثر الزاد فإن السفر طويل
ما رأيت أكثر أذى للمؤمن من مخالطة من لا يصلح، فإن الطبع يسرق. فإن لم يتشبه بهم ولم يسرق منهم فتر عن عمله. فإن رؤية الدنيا تحث على طلبها، وقد رأى رسول الله ﷺ سترا على بابه فهتكه وقال مالي وللدنيا. ولبس ثوبا له طراز فرماه وقال: شغلتني أعلامه. ولبس خاتما ثم رماه وقال: نظرت إليكم ونظرت إليه. وكذلك رؤية أرباب الدنيا ودورهم وأحوالهم، خصوصا لمن له نفس تطلب الرفعة. وكذا سماع الأغاني ومخالطة الصوفية الذين لا نظر لهم اليوم إلا في لرزق الحاصل. لو كان من أي مكان قبلوه، ولا يتورعون أن يأخذوا من ظالم، وليس عندهم خوف كما كان أوائلهم. فقد كان سري السقطي يبكي طول الليل، وكان يبالغ في الورع، وهم ليس لهم ورع سري، ولا لهم تعبد الجنيد. وإنما ثم أكل ورقص وبطالة وسماع أغاني من المردان، حتى قال بعض من يعتبر قوله: حضرت مع رجل كبير يومىء إليه من مشايخ الربط ومغنيهم أمرد، فقام الشيخ ونقطه بدينار على خده. وادعاؤهم أن سماع هذه الأشياء يدعو إلى الآخرة فوق الكذب، وليس العجب منهم، إنما العجب من جهال ينفقون عليهم فيفقون عليهم. ولقد كان جماعة من القدماء يورن أوائل الصوفية يتعبدون ويتورعون فيعجبهم حالهم، وهم معذورون في إعجابهم بهم. وإن كان أكثر القوم في تعبدهم على غير الجادة، كما ذكرت في كتابي المسمى بتلبيس إبليس. فأما اليوم فقد برح الخفاء، أحدهم يتردد إلى الظلمة ويأكل أموالهم، ويصافحهم بقميص ليس فيه طراز، وهذا هو التصوف فحسب. أو لا يستحي من الله من زهد في رفيع الأثواب لأجل الخلائق لا لأجل الحق. ولا يزهد في مطعم ولا شبهة. فالبعد عن هؤلاء لازم. وينبغي للمنفرد لطاعة الله تعالى عن الخلق ألا يخرج إلى سوق جهده، فإن خرج ضرورة غض بصره، وألا يزور صاحب منصب ولا يلقاه، فإن إضطر دارى الأمر. ولا يخالط عاميا إلا لضررة مع التحرز. ولايفتح على نفسه باب التزوج، بل يقنع بامرأة فيها دين. فقد قال الشاعر:
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين العين موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
فإن كان يغلب عليه العلم انفرد بدراسته واحترز من الأتباع المتعلمين، وإن غلبت عليه العبادة، زاد في إحترازه. وليجعل خلوته أنيسه، والنظر في سير السلف جليسه. وليكن له وظيفة من زيارة قبور الصالحين والخلوة بها. ولا ينبغي أن يفوته ورد قيام الليل، وليكن بعد النصف الأول، فليطل مهما قدر، فإنه زمان بعيد المثل. وليمثل رحيله عن قرب ليقصر أمله، وليتزود في الطريق على قدر طول السفر. نسأل الله عز وجل يقظه من فضله، وإقبالا على خدمته، وألا يخذلنا بالإلتفات عنه، إنه قريب مجيب.