صيد الخاطر/فصل: غلبة الهوى
فصل: غلبة الهوى
رأيت كثيرا من الناس يتحرزون من رشاش نجاسة ولا يتحاشون من غيبة، ويكثرون من الصدقة ولا يبالون بمعاملات الربا، ويتهجدون بالليل ويؤخرون الفريضة عن الوقت، في أشياء يطول عددها من حفظ فروع وتضييع أصول، فبحثت عن سبب ذلك، فوجدته من شيئين: أحدهما العادة، والثاني غلبة الهوى في تحصيل المطلوب، فإنه قد يغلب فلا قد يغلب فلا يترك سمعا ولا بصرا. ومن هذا القبيل ان إخوة يوسف قالوا ـ حين سمعوا صوت المنادي ـ: إنكم لسارقون لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين، فجاء في التفسير أنهم لما ذخلوا مصر كمموا أفواه إبلهم لئلا نتناول ما ليس لهم فكأنهم قالوا: قد رأيتم ما صنعناه بإبلنا فكيف نسرق؟ ونسوا هم تفاوت ما بين الورع واختطاف أكلة لا يملوكونها، وبين إلقاء يوسف عليه السلام في الجب وبيعه بثمن بخس. وفي الناس من يطيع في صغار الأمور دون كبارها، وفيما كلفته عليه خفيفة أو معتادة، وفيما لا ينقص شيئا من عادته في مطعم وملبس. نرى أقواما يأخذون الربا ويقول أحدهم: كيف يراني عدوي بعد بعت داري، أو تغير ملبوسي ومركوبي. ونرى أقواما يوسوسون في الطهارة ويستعملون الكثير من الماء ولا يتحاشون من غيبه. وأقواما يستعملون التأولات الفاسدة في تحصيل أغراضهم مع علمهم أنها لا تجوز، حتى أني رأيت رجلا من أهل الخير والتعبد أعطاه رجل مالا ليبني به مسجدا، فأخذه لنفسه وأنفق عوض الصحيح قراضة، فلما إحتضر قال لذلك الرجل: إجعلني في حل فإني فعلت كذا وكذا. ونرى أقواما يتركون الذنوب لبعدهم عنها، فقد ألفوا الترك، وإذا قربوا منها لم يتمالكوا. وفي الناس من هذه الفنون عجائب يطول ذكرها. وقد علمنا أن خلقا من علماء اليهود كانوا يحملون ثقل التعبد في دينهم، فلما جاء الإسلام وعرفوا صحته لم يطيقوا مقاومة أهوائهم في محور رياستهم. كذلك قيصر فإنه عرف رسول الله ﷺ بالدليل، ثم لم يقدر على مقاومة هواه وترك ملكه. فالله الله في تضييع الأصول، ومن إهمال سرح الهوى، فإنه إن أهملت ماشية نفشت في زروع التقى. ما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة فإن استوثق منه ضابطه كفه. وربما لاحت له شهواته الغالبة عليه فلم تقاومها السلسلة فأفلت، على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة، ومنهم من يكفه بخيط، فينبغي للعاقل أن يحذر شياطين الهوى، وأن يكون بصيرا بما يقوى عليه من أعدائه، وبمن يقوى عليه.