صيد الخاطر/فصل: عليك من العمل ما تطيق
فصل: عليك من العمل ما تطيق
ينبغي للعاقل ألا يقدم على العزائم حتى يزن نفسه هل يطيقها؟ وبحرب نفسه في ركوب بعضها سرا من الخلق، فإنه لا يأمن أن يرى في حالة لا يصبر عليها، ثم يعود فيفتضح، مثال: رجل سمع بذكر الزهاد فرمى ثيابه الجميلة ولبس الدون وإنفرد في زواية، وغلب على قلبه ذكر الموت والآخرة، فلم يلبث متقاضي الطبع أن ألح بما جرت به العادة. فمن القوم من عاد بمرة إلى أكثر مما كان عليه كأكل الناقة من مرض، ومنهم من توسط الحال فبقي كالمذبذب. وإنما العاقل هو الذي يستر نفسه بين الناس بثوب وسط لا يخرجه من أهل الخير، ولا يدخله في زي أهل الفاقة، فإن قويت عزيمته عمل في بيته ما يطيق، وترك ثوب التجمل لستر الحال، ولم يظهر شيئا للخلق، فإنه أبعد من الرياء، وأسلم من الفضيحة. وفي الناس من غلب عليه قصر الأمل وذكر الآخرة حتى دفن كتب العلم، وهذا الفعل عندي من أعظم الخطأ وإن كان منقولا عن جماعة من الكبار. ولقد ذكرت هذا لبعض مشايخنا فقال: أخطأوا كلهم وقد تأولت لبعضهم بأنه كان فيها أحاديث عن قوم ضعفاء ولم يميزوها، كما روى عن سفيان في دفن كتبه. أو كان فيها شيء من الرأي فلم يحبوا أن يؤخذ عنهم فكان من جنس تحريق عثمان بن عفان رضي الله عنه للمصاحف لئلا يؤخذ بشيء مما فيها من المجمع على غيره. وهذا التأويل يصح في حق علمائهم. فأما غسل أحمد بن أبي الحواري كتبه، وابن أسباط، فتفريط محض. فالحذر الحذر من فعل يمنع منه الشرع، أو من إرتكاب ما يظن عزيمة وهو خطيئة، أو من إظهار ما لا يقوى عليه المظهر فيرجع القهقرى. وعليكم من العمل بما تطيقون كما قال ﷺ.