صيد الخاطر/فصل: نية المؤمن أبلغ من عمله
فصل: نية المؤمن أبلغ من عمله
عدلوما ابتلى الإنسان قط بأعظم من علو همته. فإن من علت همته يختار المعالي. وربما لا يساعده الزمان، وقد تضعف الآلة، فيبقى في عذاب. وإني أعطيت من علو الهمة طرفا فأنا به في عذاب ولا أقول ليته لم يكن فإنه إنما يحلو العيش بقدر عدم العقل، والعاقل لا يختار زيادة اللذة بنقصان العقل. ولقد رأيت أقواما يصفون علو هممهم، فتأملتها بها في فن واحد. ولا يبالون بالنقص فيما هو اهم، قال الرضي: ولكل جسم في النحول بلية وبلاء جسمي من تفاوت همتي فنظرت فإذا غاية أمله الإمارة. وكان ابو مسلم الخرساني في حال شبيبته لا يكاد ينام، فقيل له في ذلك فقال: ذهن صاف، وهم بعيد، ونفس تتوق إلى معالي الأمور، مع عيش كعيش الهمج الرعاع. قيل: فما الذي يبرد غليلك؟ قال: الظفر بالملك. قيل: فاطلبه، قال لا يطلب إلا بالأهوال. قيل: فاركب الأهوال. قال: العقل مانع. قيل: فما تصنع؟ قال: سأجعل من عقلي جهلا. وأحاول به خدرا لا ينال إلا بالجهل. وأدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا به. فإن الخمول أخو العدم. فنظرت إلى حال هذا المسكين فإذا هو قد ضيع أهم المهمات وهو جانب الآخرة، وانتصب في طلب الولايات. فكم فتك وقتل؟ حتى نال بعض مراده من لذات الدنيا. ثم لم يتنعم في ذكل غير ثمان سنين. ثم اغتيل، ونسى تدبير العقل، فقتل ومضى إلى الآخرة على أقبح حال. وكان المتنبي يقول:
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكن قلبا ـ بين جنبي ـ ماله مدى ينتهي بي في مراد أحده
يرى جسمه يكسي شفوفا تربه فيختار أن يكسي دروعا تهده
فتأملت هذا الآخر فإذا نهمته فيما يتعلق بالدنيا فحسب. ونظرت إلى علو همتي فرأيتها عجبا. وذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني لا أصل إليه، لأني أحب نيل كل العلوم على إختلاف فنونها. وأريد إستقصاء كل فن، هذا أمر يعجز العمر عن بعضه. فإن عرض لي ذو همة في فن بلغ منتهاه رأيته ناقصا في غيره، فلا أعد همته تامة. مثل المحدث فاته الفقه. والفقيه فاته علم الحديث. فلا أرضى بنقصان من العلوم إلا حادثا عن نقص الهمة. ثم أني أروم نهاية العمل بالعلم، فأتوق إلى ورع بشر، وزهادة معروف وهذا مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلف ومعاشرتهم بعيد. ثم إني أروم الغنى عن الخلق، وأستشرف الإفضال عليهم والإشتغال بالعلم مانع من الكسب. وقبول المنن مما تأباه الهمة العالية. ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد، كما أتوق إلى تحقيق التصاميم، لبقى الخلفان نائبين عني بعد التلف. وفي طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد. ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات، وفي ذلك إمتناع من جهة قلة المال ثم لو حصل فرق جمع الهمة. وكذلك أطلب لبدني ما يصلحه من المطاعم والمشارب، فإنه متعود للترفه واللطف، وفي قلة المال مانع، وكل ذلك جمع بين أضداد. فأين أنا وما وصفته من حال من كانت غاية همته الدنيا؟ وأنا لا أحب أن يخدش حصول شيء من الدنيا وجه ديني بسبب. ولا أن يؤثر في علمي ولا في عملي. فواقلقي من طلب قيام الليل، وتحقيق الورع مع إعادة العلم، وشغل القلب بالتصانيف، وتحصيل ما يلائم البدن من المطاعم. ووا أسفي على ما يفوتني من المناجاة في الخلوة مع ملاقاة الناس وتعليمهم. ويا كدر الورع مع طلب ما لا بد منه للعائلة. غير أني قد إستسلمت لتعذيبي ولعل تهذيبي في تعذيبي، لأن علو الهمة تطلب المعالي المقربة إلى الحق عز وجل. وربما كان الحيرة في الطلب دليلا إلى المقصود، وها أنا أحفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة.
وإن بلغ همي مراده... وإلا فنية المؤمن أبلغ من عمله.