صيد الخاطر/فصل: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها
فصل: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها
عدلنازعتني نفسي إلى أمر مكروه في الشرع، وجعلت تنصب لي التأويلات، وتدفع الكراهة، وكانت تأويلاتها فاسدة، والحجة ظاهرة علىالكراهة، فلجأت إلى الله تعالى في دفع ذلك عن قلبي، وأقبلت على القراءة، وكان درسي قد بلغ إلى سورة يوسف فافتتحتها، وذلك الخاطر قد شغل قلبي حتى لا أدري ما أقرأ، فلما بلغت إلى قوله تعالى: قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي انتبهت لها وكأني خوطبت بها. فأفقت من تلك السكرة، فقلت: يا نفس أفهمت؟ هذا حر بيع ظلما فراعي حق من أحسن إليه، وسماه مالكا، وإن لم يكن له عليه ملك، فقال: إنه ربي. ثم زاد في بيان موجب كف كفه عما يؤذيه، فقال: أحسن مثواي. فكيف بك وأنت عبد على الحقيقة لمولى ما زال يحسن إليك من ساعة وجودك، وإن ستره عليك الزلل أكثر من عدد الحصا. أفما تذكرين كيف رباك، وعلمك، ورزقك، ودافع عنك، وساق الخير إليك، وهداك أقوام طريق، ونجاك من كل كيد، وضم إلى حسن الصورة الظاهرة جودة الذهن الباطن. وسهل لك مدارك العلوم حتى نلت في قصير الزمان ما لم ينله غيرك في طويله، وجلى في عرصة لسانك عرائس العلوم في حلل الفصاحة بعد أن ستر عن الخلق مقابحك، فتلقوها منك بحسن الظن. وساق رزقك بلا كافة تكلف ولا كدر من رغدا غير نزر؟ فو الله ما أدري أي نعمة عليك أشرح لك، حسن الصورة وصحة الآلات؟ أم سلامة المزاج واعتدال التركيب؟ أم لطف الطبع الخالي عن خساسة؟ أم إلهام الرشاد منذ الصغر؟ أم الحفظ بحسن الوقاية عن الفواحش والزلل؟ أم تحبب طريق النقل وإتباع الأثر من غير جمود تقليد لمعظم، ولا انخراط في سلك مبتدع؟ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. كم كائد نصب لك المكايد فوقاك؟ كم عدو حط منك بالذم فرقاك؟ كم أعطش من شراب الأماني خلقا وسقاك؟ كم أمات من لم يبلغ بعض مرادك وأبقاك؟ فأنت تصبحين وتمسين سليمة البدن، محروسة الدين، في تزيد من العلم وبلوغ الأمل، فإن منعت مرادا فرزقت الصبر عنه بعد أن تبين لك وجه الحكمة في المنع، فسلمي حتى يقع اليقين بأن المنع أصلح. ولو ذهبت أعد من هذه النعم ما سنخ ذكره امتلأت الطروس ولم تنقع الكتابة، وأنت تعلمين أن ما لم أذكره أكثر، وأن ما أومأت إلى ذكره لم يشرح، فكيف يحسن بك التعرض لما يكرهه؟ معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون.