صيد الخاطر/فصل: الانقياد للشرع لا اتباع العادات
فصل: الانقياد للشرع لا اتباع العادات
عدلرأيت عادات الناس قد غلبت على عملهم بالشرع، فهم يستوحشون من فعل الشيء لعدم جريان العادة لا لنهي الشرع. فكم من رجل يوصف بالخير يبيع ويشتري، فإذا حصلت له القراضة باعها بالصحيح من غير تقليد لإمام، أو عمل برخصة، عادة من القوم، واستثقالا للاستفتاء. ونرى خلقا يحافظون على صلاة الرغائب ويتوانون عن الفرائض. وكثيرا من المتصوفين لا يستوحشون من ظلم الناس، ثم يتصدقون على الفقراء. وربما توانو عن إخراج الزكاة. وتكاسلوا بإستعمال التأويلات فيها. ثم إذا حضر أحدهم مجلس وعظ بكى كأنه يصانع بتلك الحال. ومنهم من يخرج بعض الزكاة مصانعة عما لم يخرجه. ومنهم من يعلم أن أصل ماله حرام، ويصعب عليه فراقه للعادة. وفيهم من يخلف بالطلاق ويحنث، ويرى الفراق صعبا. فربما تأول، وربما تكاسل عن التأويل إتكالا على عفو الله تعالى، ووعدا من النفس بالتوبة. ومنهم من يرى أن إستعمال الشرع ربما كان سببا في تضييق معاشه. وقد ألف التفسح فلا يسهل عليه فراق ما قد ألف والعادات في الجملة هي المهلكة. ولقد حضر عندي رجل شيخ ابن ثمانين سنة، فاشتريت منه دكانا وعقدت معه العقد. فلما إفترقنا غدر بعد أيام. فطلبت منه الحضور عند الحاكم فأبى. فأحضرته فحلف باليمين الغموس إنه ما بعته، فقلت ما تدور عليه السنة. وأخذ يبرطل لمن يحول بيني وبينه من الظلمة. فرأيت من العوام من قد غلبت عليه العادات فلا يلتفت معها إلى قول فقيه، يقول هذا ما قبض الثمن فكيف يصح البيع؟ وآخر يقول: كيف يجوز لك أن تأخذ دكانه بغير رضاه؟ وآخر يقول: يجب عليك أن تقيله البيع. فلما لم أقله أخذ هو وأقاربه يأخذون عرضي، ورأى أنه يحامي عن ملكه، ثم سعى بي إلى السلطان سعاية يحرض فيها من الكذب ما أدهشني، ويبرطل مالا لخلق من الظلمة، فبالغوا وسعوا. إلا أن الله تعالى نجاني من شرهم. ثم إني أقمت عليه البينة عند الحاكم، فقال بعض أرباب الدنيا للحاكم: لا تحكم له، فوقف عن الحكم بعد ثبوت البنية عنده، فرأيت من هذا الحاكم ومن حاكم آخر أعلى منه من ترك إنفاذ الحق حفظا لرياستهم ما هون عندي ما فعله ذلك الشيخ حفظا لماله، لجله وعلم هؤلاء، فينحل لي من الأمر أن العادات غلبت على الناس، وإن الشرع أعرض عنه. وإن وقعت موافقة للشرع فكما أتفق أو لأجل العادة. فإن الإنسان لو ضرب بالسياط ما أفطر في رمضان عادة قد إستمرت. ويأخذ أعراض الناس وأموالهم عادة غالبة... فكم قد رأيت هذا الشيخ يصلي ويحافظ على الصلاة. ثم لما خاف فوت غرضه ترك الشرع جانبا. وكم قد رأيت أولئك الحكام يتعبدون ويطلبون العلم. غير أنهم لما خافوا على رياستهم أن تزول تركوا جانب الدين. ثم إن الله تعالى نصرني عليه وتقدم إلي الحاكم بإنفاذ ما ثبت عنده، ودارت السنة فمات الشيخ على قل، فنسأله عز وجل التوفيق للإنقياد لشرعه ومخالفة أهوائنا.