صيد الخاطر/فصل: من أذل نفسه خسر الدنيا والآخرة
فصل: من أذل نفسه خسر الدنيا والآخرة
لا عيش في الدنيا إلا للقنوع بالسير، فإنه كلما زاد الحرص على فضول زاد الهم، وتشتت القلب، واستعبد العبد. وأما القنوع فلا يحتاج إلى مخالطة من فوقه، ولا يبالي بمن هو مثل، إذ عنده ما عنده. وإن أقواما لم يقنعوا وطلبوا لذيذ العيش فأزروا بدينهم، وذلوا لغيرهم. وخصوصا أرباب العلم فإنهم ترددوا إلى الأمراء فإستعبدوهم، ورأوا المنكرات، فلم يقدروا على إنكارها،و ربما مدحوا الظالم اتقاء لشره. فالذي نالهم من الذل وقلة الدين أضعاف ما نالوا من الدنيا. ومن أقبح الناس حالا من تعرض للقضاء والشهادة، ولقد كانتا مرتبتين حسنتين. وكان عبد الحميد القاضي لا يحابي، فبعث إلى المعتضد وقال له: [ قد إستأجرت وقوفا فأد أجرتها، ففعل ]. وقال له المعتضد: [ قد مات فلان ولنا عليه مال، فقال: أنت تذكر لما وليتني قلت لي: قد أخرجت هذا الأمر من عنقي ووضعته في عنقك، ولا أقبل هذا الذي تقول إلا بشاهدين ]. وكذلك كان الشهود، دخل جماعة على بعض الخلفاء فقال الخادم: [ إشهدوا على مولانا بكذا، فشهدوا، فتقدم المجزوعي إلى الستر فقال: يا أمير المؤمنين، أشهد عليك بما في هذا الكتاب، فقال: أشهد ] قال: إنه يكتفي في ذلك، لا أشهد حتى تقول نعم، قال: نعم. فأما في زماننا فتغيرت تلك القواعد من الكل، خصوصا من يتقرب. إليه بالمال ليستشهد فتراه يسحب ليشهد على ما لا يرى. قال لي أبو المعالي بن شافع: [ كنت أحمل إلى بعض أهل السواد، وهو محبوس وأشهد عليه. وأنا أستغفر الله من ذلك ]. وليس للشهود جراية فيحملون ذلك لجلها، وإنما الذي يحصل جر الطيلسان، وطرق الباب، وقول المعرف: حرس الله نعمتك، شهادة. ولما قيل لإبراهيم النخعي: [ تكون قاضيا.لبس قميصا أحمر وجلس في السوق. فقالوا كان هذا لا يصلح ]. ودخل بعض الكبار على الرشيد ـ وقد أحضره ليوليه القضاء ـ فسلم وقال له: [ كيف أنت وكيف الصبيان؟ ] فقيل: هذا مجنون، فيا لله جنون هو العقل. وما أظن الإيمان بالآخرة إلا متزلزلا في أكثر القلوب. نسأله الله سبحانه وسلامة الدين فإنه قادر.