صيد الخاطر/فصل: لا تنون عن طلب الكمال
فصل: لا تنون عن طلب الكمال
من أعمل فكره الصافي دله على طلب أشرف المقامات، ونهاه عن الرضى بالنقص في كل حال. وقد قال أبو الطيب المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام
فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه. فلو كان يتصور للآدمي صعود السموات، لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض. ولو كانت النبوة تحصل بالإجتهاد، رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض. غير أنه إذا لم يمكن ذلك فينبغي أن يطلب الممكن. والسيرة الجميلة عند الحكماء خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل. وأنا أشرح من ذلك ما يدل مذكوره على مغفله: أما في البدن: فليست الصورة داخلة تحت كسب الآدمي، بل يدخل تحت كسبه تحسينها وتزيينها. فقبيح بالعاقل إهمال نفسه. وقد نبه الشرع على الكل بالبعض، فأمر بقص الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، ونهى عن أكل الثوم والبصل النيء لأجل الرائحة. وينبغي له أن يقيس على ذلك ويطلب غاية النظافة ونهاية الزينة. وقد كان النبي ﷺ يعرف مجيئه بريح الطيب، فكان الغاية في النظافة والنزاهة. ولست آمر بزيادة التقشف الذي يستعمله الموسوس، ولكن التوسط هو المحمود. ثم ينبغي له أن يرفق بيدنه الذي هو راحلته ولا ينقص من قوتها فتنقص قوته. ولست آمر بالشبع الذي يوجب الجشاء، إنما آمر بالتوسط فإن قوى الآدمي كعين جارية كم فيها منفعة لصاحبها ولغيره. ولا يلتفت إلى قول الموسوسين من المتزهدين الذين جدوا في التقلل فضعفوا عن الفرائض. وليس ذلك من الشرع ولا نقل عن الرسول ﷺ ولا أصحابه. إنما كان الرسول ﷺ وأصحابه إذا لم يجدوا جاعوا، وربما آثروا فصبروا ضرورة. وكذلك ينبغي أن ينظر لهذه الراحلة في علفها ـ فرب لقمة منعت لقمات ـ فلا يعطيها ما يؤذيها بل ينظر لها في الأصلح، ولا يتلفت إلى متزهد يقول لا أبلغها الشهوات. فإن النظر ينبغي أن يكون في حل المطعم وأخذ ما يصلح بمقدار. ولم ينقل عن الرسول ﷺ ولا أصحابه رضي الله عنهم ما أحدثه الموسوسون في ترك المشتهيات على الإطلاق. إنما نقل عنهم تركها لسب، إما للنظر في حلها، أو للخوف من مطالبة النفس بها في كل وقت ويجوز ذلك. وينبغي له أن يجتهد في التجارة والكسب ليفضل على غيره ولا يفضل غيره عليه. ولبيلغ من ذلك غاية لا تمنعه عن العلم، ثم ينبغي له أن يطلب الغاية في العلم. ومن أقبح النقص التقليد، فإن قويت همته، رقته إلى أن يختار لنفسه مذهبا ولا يتمذهب لأحد فإن المقلد أعمى بقوده مقلده. ثم ينبغي أن يطلب الغاية في معرفة الله تعالى ومعاملته، وفي الجملة لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصلها. فإن القنوع حالة الأرذال.
فكن رجلا رجله في الثرى وهامة همته في الثريا
ولو أمكنك عبور كل أحد من العلماء والزهاد فإفعل، فإنهم كانوا رجالا وأنت رجل. وما قعد من قعد إلا لدناءة الهمة وخساستها. واعلم أنك في ميدان سباق والأوقات تنتب ولا تخلد إلى كسل، فما مات ما فات إلا بالكسل، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم. وإن الهمة لتغلي في القلوب غليان ما في القدور، وقد قال بعض من سلف:
ليس لي مال سوى كرى فبه أحيا من العدم
فنعت نفسي بما رزقت وتمطت في العلا هممي