صيد الخاطر/فصل: ليس المراد من العلم فهم الألفاظ
فصل: ليس المراد من العلم فهم الألفاظ
عدلرأيت أكثر العلماء مشتغلين بصورة العلم دون فهم حقيقته ومقصوده. فالقارىء مشغول بالروايات، عاكف على الشواذ، يرى أن المقصود نفس التلاوة، ولا يتلمح عظمة المتكلم، ولا زجر القرآن ووعده. وربما ظن أن حفظ القرآن يدفع عنه.. فتراه يترخص فبالذنوب، ولو فهم لعلم أن الحجة عليه أقوى ممن لم يقرأ. والمحدث يجمع الطرق، ويحفظ الأسانيد، ولا يتأمل مقصود المنقول، ويرى أنه قد حفظ على الناس الأحاديث، فهو يرجوا بذلك السلامة. وربما ترخص في الخطايا ظنا منه أن ما فعل في الشريعة يدفع عنه. الفقيه قد وقع له أنه بما قد عرف من الجدال الذي يقوي به خصامه، والمسائل التي قد عرف فيها المذهب قد حصل بما يفتي به الناس ما يرفع قدره، ويمحو ذنبه. ربما هجم على الخطايا ظنا منه أن ذلك يدفع عنه. وربما لم يحفظ القرآن ولم يعرف الحديث، وأنهما ينهيان عن الفواحش بزجر ورفق. وينضاف إليه مع الجهل بهما حب الرياسة، وإيثار الغلبة في الجدل، فتزيد قسوة قلبه. وعلى هذا أكثر الناس، صور العلم عندهم صناعة، فهي تكسبهم الكبر والحماقة. وقد حكى بعض المعتبرين عن شيخ أفنى عمره في علوم كثيرة، أنه فتن في آخر عمره بفسق أصر عليه، وبارز الله به. وكانت حالة تعطي بمضمونها أن علمي يدفع عني شر ما أنا فيه ولا يبقى له اثر. وكان كأنه قد قطع لنفسه بالنجاة، فلا يرى عنده أثر لخوف ولا ندم على ذنب. قال: فتغير في آخر عمره ولازمه الفقر، فكان يلقي الشدائد ولا ينتهي عن قبح حاله. إلى أن جمعت له يوما قراريط على وجه الكدية فاستحى من ذلك وقال: يارب إلى هذا الحد؟ قال الحاكي: فتعجبت من غفلته كيف نسي الله عز وجل، وأراد منه حسن التدبير له والصيانة وسعة الرزق، وكأنه ما سمع قوله تعالى: وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ولا علم أن المعاصي تسد أبواب الرزق، وأن من ضيع أمر الله ضيعه الله. فلما رأيت علما ما أفاد كعلم هذا، لأن العالم إذا زل انكسر، وهذا مصر لا تؤلمه معصيته وكأن يجوز له ما يفعل، أو كأن له التصرف في الدين تحليلا وتحريما. فمرض عاجلا، ومات على أقبح حال. قال الحاكي: ورأيت شيخا آخر حصل صور علم، فما أفادته. كان أي فسق أمكنه لم يتحاش منه، وأي أمر لم يعجبه من القدر عارضه بالاعتراض على المقدر واللوم. فعاش أكدر عيش، وعلى أقبح اعتقاد حتى درج. وهؤلاء لم يفهموا معنى العلم، وليس العلم صور الألفاظ، إنما المقصود فهم المراد منه، وذاك يورث الخشية والخوف، ويرى المنة للمنعم بالعلم، وقوة الحجة له على المتعلم. نسأل الله عز وجل يقظة تفهمنا المقصود، وتعرفنا المعبود. ونعوذ بالله من سبيل رعاع يتسمون بالعلماء، لا ينهاهم ما يحملون، ويعلمون ولا يعلمون، ويتكبرون على الناس بما لا يعلمون. ويأخذون عرض الأدنى وقد نهوا عما يأخذون. غلبتهم طباعهم، وما راضتهم علومهم، التي يدرسون. فهم أحسن حالا من العوام الذين يجهلون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.