صيد الخاطر/فصل: شر البلاء عشق المال
فصل: شر البلاء عشق المال
عدلسبحان من جعل الخلق بين طرفي نقيض، والمتوسط منهم يندر. منهم من يغضب فيقتل ويضرب. ومنهم من هو أبله بقوة الحلم لا يؤثر عنده السب. ومنهم شره يتناول كل ما يشتهي. ومنهم متزهد يتجفف فيمنع النفس حقها. وكذلك سائر الأشياء المحمود منها المتوسط. فالمنفق كل ما يجد مبذر، والبخيل يخبىء المال، ويمنع نفسه حظها. ومعلوم أن المال لا يراد لنفسه، بل للمصالح، فإذا بذر الإنسان فيه إحتاج إلى بذل وجهه ودينه، ومنه البخلاء عليه، وهذا لا يصلح. ولأن يخلف الإنسان لعدوه أحسن من أن يحتاج إلى صديقه. ومن الناس من يبخل، ثم يتفاوتون في البخل حتى ينتهي البلاء بهم إلى عشق عين المال. فربما مات أحدهم هزالا وهو لا ينفقه، فيأخذه الغير ويندم المخلف. ولقد بلغني في هذا ما ليس فوقه مزيد، ذكرته لتعتبر به. فحدثني شيخنا أبو الفضل بن ناصر، عن شيخه عبد المحسن الصوري، قال: [ كان بصور تاجر في غرفة له يأخذ كل ليلة من البقال رغيفين وجوزة، فيدخل إلى غرفته وقت المغرب، فيضرم النار في الجوزة فتضيء بمقدار ما ينزل ثوبه. وفي زمان إحراق القشر تكون قد استوت فيمسح بها الرغيفين ويأكلهما. فبقي على هذا مدة فمات، فأخذ منه ملك صور ثلاثين ألفا ]. ورأيت أن رجلا من كبار العلماء قد مرض، فاستلقى عند بعض أصدقائه، ليس له من يخدمه، ولا يرافقه، وهو مضر فلما مات وجدوا بين كتبه خمسمائة دينار. وحدثني أبو الحسن الراندسي، قال: [ مرض رجل عندنا، فبعث إلي فحضرت، فقال: قد: ختم القاضي على مالي، فقلت: إن شئت قمت وفتحت الختم وأعطيتك الثلث تفرقة وتعمل به ما تشاء. فقال: لا والله ما أريد أن أفرقه، بل أريد مالي أن يكون عندي. فقلت: ما يعطونك بلى أنا آخذ لك الثلث كي تكون حرا فيه. فقال: لا أريد، فمات وأخذ ماله ]. قال: [ وجاء رجل فحدثني بعجيبة، قال: مرضت حماتي، فقالت لي: أريد أن تشتري لي خبيصا، فإشتريت لها، وكانت ملقاة في صفة، ونحن في صفة أخرى. فجاءني ولدي الصغير وقال: يا سيدي، إنها تبلع الذهب، فقمت. وإذا بها تجعل الدينار في شيء من الخبيص فتبلعه. فأمسكت يدها وزجرتها عن هذا. فقالت: أنا أخاف أن تتزوج على إبنتي، فقلت: ما أفعل، فقالت إحلف لي، فحلفت، فأعطتني باقي الذهب، ثم ماتت فدفنتها. فلما كان بعد أشهر، مات لنا طفل، فحملناه إليها، وأخذت معي خرقة خام، وقلت للحفار: إجمع لي عظام تلك العجوز في الخرقة، فجئت بها إلى البيت وتركتها، في أجانة، وصببت عليها الماء وحركتها، فأخرت ثمانين دينارا أو نحوها كانت قد إبتلعتها ]. وحكى لي صديق لنا، أن رجلا مات ودفن في الدار، ثم نبش بعد مدة ليخرج فوجد تحت رأسه لبنة مقيرة. فسأل أهله عنها فقالوا: هو قير هذه اللبنة وأوصى أن تترك تحت رأسه في قبره وقال: إن اللبن يبلى سريعا، وهذه لموضع القار لا تبلى. فأخذوها فوجدوها رزينة، فكسروها فوجدوا فيها تسعمائة دينار فتولاها أصحاب التركات. وبلغني أن رجلا كان يكنس المساجد، ويجمع ترابها، ثم ضربه لبنا، فقيل له هذا لأي شيء؟ فقال: هذا تراب مبارك، وأريد أن يجعلوه على لحدي، فلما مات جعل على لحده، ففضل منه لبنات، فرموها في البيت، فجاء المطر فتفسخت اللبنات فإذا فيها دنانير. فمضوا وكشفوا اللبن عن لحده وكله مملوء دنانير. ولقد مات بعض أصدقائنا وكنت أعلم أن له مالا كثيرا، وطال مرضه فما أطلع أهله علىشيء ولا أكاد أشك أنه من شحه وحرصه على الحياة، ورجائه أن يبقى لم يعلمهم بمدفونه، خوفا أن يؤخذ فيحيا هو، وقد أخذ المال. وما يكون بعد هذا الخزي شيء. وحدثني بعض أصحابنا عن حالة شاهدها من هذا الفن. قال: [ كان فلان له ولدان ذكران وبنت وله ألف دينار مدفونة. فمرض مرضا شديدا فاحتوشته أهله، فقال لأحد ابنيه: لا تبرح من عندي. فلما خلا به قال له: إن أخاك مشغول باللعب بالطيور، وإن أختك لها زوج تركي ومتى وصل من مالي إليهما شيء أنفقوه في اللعب وأنت على سيتي وأخلاقي، ولي في الموضع الفلاني ألف دينار، فإذا أنا مت فخذها وحدك. فاشتد بالرجل المرض فمضى الولد فأخذ المال فعوفي الأب، فجعل يسأل الولد أن يرد المال إليه فلا يفعل، فمرض الولد فجعل الأب يتضرع إليه ويقول: ويحك خصصتك بالمال دونهم، فتموت فيذهب المال، ويحك لا تفعل، فما زال به حتى أخبره بمكانه، فأخذه ثم عوفي الولد، ومضت مدة فمرض الأب، فاجتهد الولد أن يخبره بمكان المال، وبالغ فلم يخبره، ومات وضاع المال. فسبحان من أعدم هؤلاء العقول والفهوم، إن هم إلا كالأنعام بل هم أضلوا سبيلا.