صيد الخاطر/فصل: العاقل من تأمل الأمور ورعاها
فصل: العاقل من تأمل الأمور ورعاها
من الغلط العظيم أن يتكلم في حق معزول بما لا يصلح، فإنه لا يؤمن أن يلي فينتقم. وفي الجملة لا ينبغي أن يظهر العداوة لأحد أصلا، فقد يرفع المحتقر، وقد يتمكن من لا يعد. بل ينبغي أن يكتم ما في النفوس من ضغن على الأعداء. فأن أمكن الإنتقام منهم كان العفو انتقاما لأنه يذلهم. وينبغي أن يحسن إلى كل أحد، خصوصا من يجوز أن يكون له ولاية، وأن يخدم المعزول، فربما نفع في ولايته. وقد روينا أن رجلا إستأذن على قاضي القضاة ابن أبي داؤد وقال: قولوا له: أبو جعفر بالباب. فلما سمع هش لذلك وقال: ائذنوا له. فدخل، فقام، وتلقاه وأكرمه وأعطاه خمسة آلاف، وودعه. فقيل له: رجل من العوام فعلت به هذا؟ قال: إني كنت فقيرا، وكان هذا صديقا، فجئته يوما فقلت له: أنا جائع. فقال: اجلس، وخرج، فجاء بشواء وحلوى وخبز فقال: كل. فقلت: كل معي. قال: لا قلت: والله لا آكل حتى تأكل معي، فأكل فجعل الدم يجري من فمه. فقلت: ما هذا فقال: مرض. فقلت: والله لا بد أن تخبرني. فقال: إنك لما جئتني لم أكن أملك شيئا. وكانت أسناني مضببة بشريط من ذهب، فنزعنه واشتريت به. فهلا أكافئ مثل هذا؟ وعلى عكس هذه الأشياء كان ابن الزيات وزير الواثق، وكان يضع من المتوكل، فلما ولي عذبه بأنواع العذاب. وكذلك ابن الجزري كان لا يوقر المسترشد قبل الولاية، فجرت عليه الآفات لما ولي. فالعاقل من تأمل العواقب ورعاها. وصور كل ما يجوز أن يقع فعمل بمقتضى الحزم. وأبلغ من هذا تصوير وجود الموت عاجلا، لأنه يجوز أن يأتي بغتة من غير مرض. فالحازم من إستعد له وعمل عمل من لا يندم إذا جاءه. وحذر من الذنوب فإنها كعدو مراصد بالجزاء. وإدخر لنفسه صالح الأعمال، فإنها كصديق صديق ينفع وقت الشدة. وأبلغ من كل شيء أن يعلم المؤمن أنه كلما زاد عمله في الفضائل علت مرتبته في الجنة، وإن نقص نقصت. فهو وأن دخل الجنة في نقص بالإضافة إلى كمال غيره، غير أنه قد رضي به ولا يشعر بذلك. فرحم الله من تلمح العواقب، وعمل بمقتضى التلمح، والله تعالى الموفق.