صيد الخاطر/فصل: شغل الحياة
فصل: شغل الحياة
عدلخطر لي خاطر والمجلس قد طيب، والقلوب قد حضرت، والعيون جارية، والرؤوس مطرقة، والنفوس قد ندمت على تفريطها، والعزائم قد نهضت لإصلاح شؤونها، وألسنة اللوم تعمل في الباطن على تضييع الحزم وترك الحذر، فقلت لنفسي: ما بال هذه اليقظة لا تدوم فإني أرى النفس واليقظة في المجلس متصادقين متصافيين، فإذا قمنا عن هذه التربة، وقعت الغربة. فتأمت ذلك فرأيت أن النفس ما تزال متيقظة، والقلب ما يزال عارفا، غير أن القواطع كثيرة، والفكر الذي ينبغي استعماله في معرفة الله سبحانه تعالى قد كل مما يستعمل في اجتلاب الدنيا، وتحصيل حوائج النفوس، والقلب منغمس في ذلك، والبدن أسير مستخدم. وبينا الفكر يجول في اجتلاب الطعام والشراب والكسوة، وينظر في صدد ذلك، وما يدخر لعده وسنته، إذا هو مهتم بخروج الفضلات المؤذية ـ ومنها المني فاحتاج إلى النكاح، فعلم أنه لا يصح إلا باكتساب كسب الدنيا فتفكر في ذلك وعمل بمقتضاه. ثم جاء الولد فاهتم به وله، وإذا الفكر عامل في أصول الدنيا وفروعها. فإذا حضر الإنسان المجلس فإنه لا يحضر جائغا ولا حاقنا. بل يحضره جائعا لهمه، ناسيا ما كان من الدنيا على ذكره فيخلو الوعظ بالقلب فيذكره بما ألف، وبجذبه بما عرف، فينهض عمال القلب في زوارق عرفانه. فيحضرون النفس إلى باب المطالبة بالتفريط، ويؤاخذون الحس بما مضى من العيوب، فتجري عيون الندم، وتنعقد عزائم الاستدراك. ولو أن هذه النفس خلت عن المعهودات التي وصفتها، لتشاغلت بخدمة باريها. ولو وقعت في سورة حبه، لاستوحشت عن الكل شغلا بقربه. ولهذا سكن الزهاد الخلوات، وتشاغلوا بقطع المعوقات، وعلى قدر مجاهدتهم في ذلك نالوا من الخدمة مرادهم، كما أن الحصاد على مقدار البذر. غير أن تلمحت في هذه الحالة ـ دقيقة ـ وهو أن النفس لو دامت لها اليقظة لوقعت فيما هو شر من فوت ما فاتها، وهو العجب بحالها، والاحتقار لجنسها. وربما ترقت بقوة علمها وعرفانها، إلى دعوى قولها: لي، وعندي، وأستحق. فتركها في حومة ذنوبها تتخبط. فإذا وقفت على الشاطئ قامت بحق ذلة العبودية، وذلك أولى لها. هذا حكم الغالب من الخلق، ولذلك شغلوا عن هذا المقام، فمن بذر فصلح له فلا بد له من هفوة تراقبها عين الخوف بها تصح عبوديته، وتسلم له عبادته. وإلى هذا المعنى أشار الحديث الصحيح: لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم.