صيد الخاطر/فصل: لا تثق بمودة لا أصل لها
فصل: لا تثق بمودة لا أصل لها
عدلينبغي لمن صحب سلطانا أو محتشما أن يكون ظاهره معه وباطنه سواه، فإنه قد يدس إليه من يخبره، فربما افتضح في الابتلاء. وقد كان جماعة من الملوك يقصدون تقريب المنادم، ويجعلون له حجرة في دورهم، فإذا أرادوا أن يختصوه اختبروه باطنا وذاك لا يدري، فيظهر منه ما لا يصلح فيطرد. ولقد امتحن أبرويز رجلا من خاصته، فدس إليه جارية معها ألطاف، وأمرها ألا تقعد عنده فحملها. ثم أنفذها مرة أخرى وأمرها أن تقعد بعد التسليم هنيهة ففعلت، فلاحظها الرجل. ثم بعثها مرة ثالثة وأمرها أن تطيل القعود عنده وتحدثه، فأطالت الحديث معه، فأبدى لها شيئا من الميل إليها، فقالت، أخاف أن يطلع علينا، ولكن دعني أدبر في هذا. فذهبت فأخبرت الملك بذلك، فوجه غيرها من خواص جواريه بمثل ذلك، فلما جاءته قال: ما فعلت فلانة؟ قالت: مريضة، فاربد لونه. ثم فعلت الجارية الثانية مثل ما فعلت الأولى، فقالت له: إن الملك يمضي إلى بستانه فيقيم هناك. فإن أرادك على أن تمضي معه فأظهر أنك عليل. فإن خيرك بين الانصراف إلى دور نسائك، أو المقام هنا، فاختر المقام ههنا، وأخبر أنك لا تقدر على الحركة. فإن أجابك إلى ذلك جئت كل ليلة ما دام الملك غائبا، فسكن إلى قولها، ثم مضت وأخبرت الملك بذلك. فلما كان بعد ثلاث، إستدعاه الملك فقال: إني مريض. فعاد لرسول فأخبره فتبسم، وقال: هذا أول الشر. فوجه إليه محفة فيها إليه، فلما بصر به أبرويز قال: والمحفة الشر الثاني. فرأى العصابة على رأسه. قال: والعصابة الشر الثالث. فقال له الملك: أيهما أحب إليك، الانصراف إلى نسائك ليمرضنك أو المقام ههنا إلى وقت رجوعي؟ قال: المقام ههنا أرفق لي لقلة الحركة، فتبسم وقال: حركتك ههنا إن تركت أكثر من حركتك إلى منزلك. ثم أمره له بعصا الزناة التي كان يوسم بها من زنا. فأيقن الرجل بالأمر، وأمر أن يكتب ما كان من أمره حرفا حرفا فيقرأ على الناس حرفا حرفا إذا حضروا، وأن ينفي إلى أقصى الممكلة، وتجعل العصا على رأس رمح يكون معه حيث كان، ليحذر منه من لا يعرفه. فلما نفي أخذ من بعض الموكلين مدية فجب بها ذكره وقال: ومات من ساعته. قلت: وقد كان جماعة من الأمراء يتنكرون يسألون العوام عن سيرتهم، فيتكلم العامي بما لا يصح فيضبطونه وربما بعثوا دسيسا عليه. ورب كلمات قالها مسترسل فبلغها فضولي فأهلكت صاحبها. ورأى عمر بن عبد العزيز رجلا من العمال كثير الصلاة، فدس عليه من قال له: إن أخذت لك الولاية الفلانية فما تعطيني. قال: أعطيك كذا وكذا، قال له عمر: غررتنا بصلاتك. وقد بلغت أن رجلا كلم امرأة فأجابته فإستدعيته إلى دارها فلما دخل أقامت على قتله. فقد ينجلي من هذه الحكاية أنه لا ينبغي أن يسكن إلى قول امرأة أو رجل يجوز أنه يكون جاسوسا ومختبرا. وكذلك لا يظهر ما ينبغي إخفاؤه من مال أو مذهب، أو سب رجل، فربما كان له في الحاضرين قريب. ولا يوثق بمودة لا أصل لها، فربما كانت تحتها آفة تقصده. وليحذر من كل أمر يحتمل. ورب كلمة نقلها صديق إلى صديق فتحدث بها من لا يقصد أذى للقائل فبلغت فتأذى. ورب مظهر للمحبة مبالغ حتى يستمكن من مراده. فالحذر الحذر من الطمأنينة إلى أحد، خصوصا من عدو آذيته أو قتلت له قريبا. فربما أظهر الجميل شبكة لإصطيادك كحديث الزباء.