صيد الخاطر/فصل: استفت قلبك
فصل: استفت قلبك
أمكنني تحصيل شيء من الدنيا بنوع من أنواع الرخص، فكنت كلما حصل شيء منه، فاتني من قلبي شيء، وكلما إستنارت لي طريق التحصيل، تجدد في قلبي ظلمة. فقلت يا نفس السوء ـ الإثم حواز القلوب ـ وقد قال استفت قلبك فلا خير في الدنيا كلها إذا كان في القلب من تحصيلها شيء أوجب نوع كدر. وإن الجنة لو حصلت بسبب يقدح في الدين أو في المعاملة ما لذت، والنوم على المزابل مع سلامة القلب من الكدر ألذ من تكآت الملوك. وما زلت أغلب نفسي تارة وتغلبني أخرى، ثم تدعي الحاجة إلى تحصيل ما لا بد لها منه. وتقول: فما أتعدى في الكسب المباح في الظاهر. فقلت لها: أو ليس الورع يمنع من هذا؟ قالت: بلى. قلت: أليست القسوة في القلب تحصل به؟ قالت: بلى. قلت: فلا خير لك في شيء هذا ثمرته. فخلوت يوما بنفسي فقلت لها: ويحك اسمعي أحدثك: إن جمعت شيئا من الدنيا من وجه فيه شبهة أفأنت على يقين من إنفاقه؟ قالت: لا. قلت: فالمحنة أن يحظي به الغير ولا تنالين إلا الكدر العاجل، والوزر الذي لا يؤمن. ويحك، أتركي هذا الذي يمنع منه الورع لأجل الله فعامليه بتركه. كأنك لا تدرين ألا تتركي إلا ما هو محرم فقط أو مالا يصح وجهه. أو ما سمعت أن من ترك شيئا الله عوضه الله خيرا منه؟ أما لك عبرة في أقوام جمعوا فحازه سواهم، وأملوا فما بلغوا مناهم؟ كم من عالم جمع كتبا كثيرة ما انتفع بها. وكم من منتفع ما عنده عشرة أجزاء. وكم من طيب العيش لا يملك دينارين. وكم من ذي قناطير منغص. أما لك فطنة تتلمح أحوال من يترخص من وجه فيسلب منه من أوجه؟ ربما نزل المرض بصاحب الدار أو ببعض من فيها فأنفق في سنته أضعاف ما ترخص في كسبه، والمتقي معافى. فضجت النفس من لومي وقالت: إذا لم أتعد واجب الشرع فما الذي تريد مني؟ فقلت لها: أضن بك عن الغبن وأنت أعرف بباطن أمرك. قالت: فقل لي ما أصنع؟ قلت: عليك بالمراقبة لمن يراك، ومثلي نفسك بحضرة معظم من الخلق فإنك بين يدي الملك الأعظم يرى من باطنك ما لا يراه المعظمون من ظاهرك. فخذي بالأحوط، واحذري من الترخص في بيع اليقين، والتقوى بعاجل الهوى. فإن ضاق الطبع مما تلقين فقولي له: مهلا، فما انقضت مدة الإشارة، والله مرشدك إلى التحقيق، ومعينك بالتوفيق.