صيد الخاطر/فصل: إصلاح البدن سبب لإصلاح الدين
فصل: إصلاح البدن سبب لإصلاح الدين
عدلرأيت نفسي كلما صفا فكرها، أو اتعظت بدارج، او زادت قبور الصالحين، تترك همتها في طلب العزلة، والإقبال على معاملة الله تعالى. فقلت لها يوما، وقد كلمتني في ذلك: حدثني ما مقصودك؟ وما نهاية مطلوبك؟ اتراك تريدين مني أن أسكن قفرا لا أنيس به، فتفوتني صلاة الجماعة، ويضيع مني ما قد علمته لفقد من أعلمه؟ وأن آكل الجشب الذي أتعوده فيقع نضوى طلحا في يومين؟ وأن ألبس الخشن الذي لا أطيقه. فلا أدري من كرب محمولي من أنا؟ وأن أتشاغل عن طلب ذرية تتعبد بعدي بقاء القدرة على الطلب. با الله ما نفعني العلم الذي بذلت فيه عمري إن وافقتك، وأنا أعرفك غلط ما وقع لك بالعلم. اعلمي أن البدن مطية، والمطية إذا لم يرفق بها لم تصل براكبها إلى المنزل. وليس مرادي بالرفق الإكثارمن الشهوات، وإنما أغنى أخذ البلغة الصالحة للبدن، فحينئذ يصفو الفكر، ويصح العقل، ويقوى الذهن. ألاترى إلى تأثير المعوقات عن صفاء الذهن في قوله عليه الصلاة والسلام: لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان، وقاس العلماء على ذلك الجوع وما يجري مجراه من كونه حاقنا، او حاقبا. وهل الطبع إلا ككلب يشغله الآكل؟، فإذا رمى له ما يتشاغل به طاب له الكل.فأما الإنفراد والعزلة فعن الشر لا عن الخير. ولو كان فيها لك وقع خير لنقل ذلك عن رسول الله ﷺ وعن أصحابه رضي الله عنهم. هيهات لقد عرفت أن أقواما ما دام بهم التقلل واليبس إلى تغير فكرهم، وقوى الخلط السوداوي عليهم، فاستوحشوا من الناس، ومنهم من اجتمعت له من المآكل الردية أخلاط مجة، فبقي اليوم واليومين والثلاثة لا يأكل وهو يظن ذلك من أمداد اللطف، وإذا به من سوء الهضم. وفيهم من ترقي به الخلط إلى رؤية الأشباح فيظنها الملائكة. فا الله الله في العلم، وا الله الله في العقل، فإن نور العقل لا ينبغي أن يتعرض لإطفائه، والعلم لا يجوز الميل إلىتنقيصه. فإذا حفظا حفظا وظائف الزمان، ودفعا ما يؤذي، وجلبا ما يصلح، وصارت القوانين مستقيمة في المطعم والمشرب والمخالطة. فقالت لي النفس: فوظف لي وظيفة واحسبني مريضا قد كتبت له بشربه. فقلت لها: قد دللتك على العلم وهو طبيب ملازم، يصف كل لحظة لكل داء يعرض دواء يلائم. وفي الجملة ينبغي لك ملازمة تقوى الله عز وجل في المنطق والنظر، وجميع الجوارح وتحقق الحلال في المطعم وإيداعي كل لحظة ما يصلح لها من الخير، ومناهبة الزمان في الأفضل، ومجانبة [ ما يؤدي إلى ] ما يؤدي من نقص ربح أو وقوع خسران. ولا تعملي عملا إلا بعد تقديم النية. تأهبي لمزعج الموت فكان قدوما عندك من مجيئه في أي وقت يكون. ولا تتعرض لمصالح البدن، بل وفريها عليه وناوليه إياها على قانون الصواب، لا على مقتضى الهوى، فإن إصلاح البدن سبب لإصلاح الدين. ودعي الرعونة التي يدل عليها الجهل لا العلم، من قول النفس فلان يأكل الخل والبلق، وفلان لا ينام الليل، فاحملي ما تطيقين، وما قد علمت قوة البدن عليه. [ فإن البهيمة إذا أقبلت إلى نهر أو ساقية فضربت لتقفز لم تفعل حتى تزن نفسها. فإن علمت فيها قوة الطفر طفرت وإن علمت أنها لا تطيق لم تفعل ] ولو قتلت. وليس كل الأبدان تتساوى في افطاقة، ولقد حمل اقوام من المجاهدات في بداياتهم أشياء أوجبت أمراضا قطعتهم عن خير، وتسخطت قلوبهم بوقوعها فعليك بالعلم فإنه شفاء من بالعلم فإنه شفاء من كل داء، والله الموفق.