صيد الخاطر/فصل: شرف الغنى ومخاطرة الفقر
فصل: شرف الغنى ومخاطرة الفقر
رأيت من أعظم حيل الشيطان ومكره، أن يحبط أرباب الأموال بالآمال، والتشاغل باللذات القاطعة عن الآخرة وأعمالها. فإذا شغلهم بالمال ـ تحريضا على جمعه، وحثا على تحصيله ـ وأمرهم بحراسته بخلا به. فذلك من متين حيله، وقوي مكره. ثم دفن في هذا الأمر من دقائق الحيل الخفية، أن خوف من جمعه المؤمنين، فنقر طالب الآخرة منه، وبادر التائب بأن يخرج ما في يده. ولا يزال الشيطان، يحرضه على الزهد، ويأمره بالترك، ويخوفه من طرقات الكسب، إظهارا لنصحه وحفظ دينه. وفي خفايا ذلك عجائب من مكره. وربما تكلم الشطان على لسان بعض المشايخ الذين يقتدي بهم التائب، فيقول له: اخرج من مالك وادخل في زمرة الزهاد. ومتى لك غداء أو عشاء، فلست من أهل الزهد، فلا تنال مراتب العزم. وربما كرر عليه الأحاديث البعيدة عن الصحة الواردة على سبب ولمعنى. فإذا أخرج ما في يده، وتعطل عن مكاسبه، عاد يعلق طعمه بصلة الإخوان. أو يحسن عنده صحبة السلطان، لأنه لا يقوى على طريق الزهد والترك إلا أياما، ثم يعود فيقاضى مطلوباته، فيقع في أقبح مما فر منه. ويبذل أول السلع في التحصيل دينه وعرضه، ويصير متمبدلابه، ويقف في مقام اليد السفلى. ولو أنه نظر في سير الرجال ونبلائهم، وتأمل صحاح الأحاديث، عن رؤسائهم، لعلم أن الخليل عليه الصلاة والسلام كان كثير المال، حتى ضاقت بلدته بمواشيه. وكذلك لوط عليه الصلاة والسلام، [ وكثير من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ]، والجم الغفير من الصحابة. وإنما صبروا عند العدم، ولم يمتنعوا من كسب ما يصلحهم، ولا من تناول المباح عند الوجود. وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج للتجارة والرسول ﷺ حي. وكان أكثرهم يخرج فاضل ما يأخذ من بيت المال، ويسلم من ذل الحاجة إلى الأخوان. وقد كان ابن عمر لا يرد شيئا، ولا يسأله. وإني تأملت على أكثر أهل الدين والعلم هذه الحال، فوجدت العلم شغلهم عن المكاسب في بداياتهم، فلما احتاجوا إلى قوم نفوسهم ذلوا، وهم أحق بالعز. وقد كانوا قديما يكفيهم من بيت المال فضلا عن الإخوان، فلما عدم في هذا الأوان، لم يقدر متدين على شيء إلا يبذل شيء من دينه. وليته قدر فربما تلف الدين ولم يحصل له شيء. فالواجب على العاقل أن يحفظ ما معه، وأن يجتهد في الكسب ليربح مداراة ظالم، أو مداهنة جاهل، ولا يلتفت إلى ترهات المتصوفة، الذين يدعون في الفقر ما يدعون. فما الفقر إلا مرض العجز، وللصابر على الفقر ثواب الصابر على المرض. اللهم إلا أن يكون جبانا عن التصرف، مقتنعا بالكفاف، فليس ذلك من مراتب الأبطال، بل هو من مقامات الجبناء الزهاد. وأما الكاسب ليكون المعطي لا المعطى، والمتصدق لا المتصدق عليه، فهي من مراتب الشجعان الفضلاء. ومن تأمل هذا، علم شرف الغنى ومخاطرة الفقر.