صيد الخاطر/فصل: قياس الغائبات على الحاضر تخليط للعقيدة
فصل: قياس الغائبات على الحاضر تخليط للعقيدة
تأملت سبب تخليط العقائد، فإذا هو الميل إلى الحس وقياس الغائبات على الحاضر فإن أقواما غلب عليهم الحس، فلما لم يشاهدوا الصانع جحدوا وجوده ونسوا أنه قد ظهر بأفعاله. وأن هذه الأفعال لا بد لها من فاعل. فإن العاقل إذا مر على صحراء خالية ثم عاد وفيها غرس وبناء علم أنه لا بد من غارس، إذ الغرس لا يكون ولا البناء. ثم جاء قوم فأثبتوا وجود الصانع، ثم قاسوه على أحوالهم فشبهوا، حتى إن قائلهم يقول: في قوله: ينزل إلى السماء: ينتقل، ويستدل بأن العرب لا تعرف النزول إلا الانتقال. وضل خلق كثير في صفاته كما ضل خلق في ذاته. فظن أقوام أنه يتأثر حين سمعوا أنه يغضب ويرضى ونسوا أن صفته تعالى قديمة لا يحدث منها شيء. وضل خلق في أفعاله فأخذوا يعللون فلم يقنعوا بشيء فخرج منهم قوم إلى أن نسبوا فعله إلى ضد الحكمة، تعالى عن ذلك. ومن رزق التوفيق فليحضر قلبه لما أقول: اعلم أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات، وصفاته ليست كالصفات، وأفعاله لا تقاس بأفعال الخلق. أما ذاته سبحانه فإنا لا نعرف ذاتا إلا أن تكون جسما وذاك يستدعي سابقة تأليف، وهو منزه عن ذلك، لأنه للمؤلف، أو أن يكون جوهرا فالجوهر متحيز، وله أمثال، وقد جل عن ذلك، أو عرضا، فالعرض لا يقوم بنفسه بل بغيره، وقد تعالى على ذلك. فإذا أثبتنا ذاتا قديمة خارجة عما يعرف، فليعلم أن الصفات تابعة لتلك الذات، فلا يجوز لنا أن نقيس شيئا منها على ما نفعله ونفهمه، بل نؤمن به ونسلم به. وكذلك أفعاله، فإن أحدنا لو فعل فعلا لا يجتلب به نفعا ولا يدفع عنه ضرا عد عابثا. وهو سبحانه أوجد الخلق لا لنفع يعود إليه، ولا لرفع ضر، إذ المنافع لا تصل إليه، والمضار لا تتطرق عليه. فإن قال قائل: إنما خلق الخلق لينفعهم. قلنا: يبطله، أنه خلق خلقا منهم للكفر وعذبهم ونراه يؤلم الحيوان والأطفال وهو قادر على ألا يفعل ذلك. فإن قال قائل: إنه يثيب على ذلك. قلنا: وهو قادر أن يثيب بلا هذه الأشياء، فإن السلطان لو أراد أن يغني فقيرا فجرحه ثم أغناه ليم على ذلك، لأنه قادر أنه يغنيه بلا جراح. ثم من يرى ما جرى لرسول الله ﷺ وعلى أصحابه من الجوع والقتل مع قدرة الناصر، ثم يسأل في أمه فلا يجاب، ولو كان المسؤول بعضنا قلنا لم تمنع ما لا يضرك. غير أن الحق سبحانه لا تقاس أفعاله على أفعالنا ولا تعلل. الذي يوجب علينا التسليم، أن حكمته فوق العقل، فهي تقضي على العقول، والعقول لا تقضي عليها. ومن قاس فعله على أفعالنا غلط الغلط الفاحش، وإنما هلكت المعتزلة من هذا الفن. فإنهم قالوا: كيف يأمر بشيء ويقضي بامتناعه؟ ولو أن إنسانا دعانا إلى داره ثم أقام من يصد الداخل لعيب. ولقد صدقوا فيما يتلعق بالشاهد. فأمل من أفعاله لا تعلل ولا تقاس بشاهد، فإنا لا نصل إلى معركة حكمته. فإن قال قائل: فكيف يمكنني أن أقود عقلي إلى ما ينافيه؟ قلنا: لا منافاة، لأن العقل قد قطع بالدليل الجلي أنه حكيم، وأنه مالك، والحكيم لا يفعل شيئا إلا لحكمة، غير أن تلك الحكمة، لا يبلغها العقل. ألا ترى أن الخضر خرق سفينة وقتل شخصا، فأنكر عليه موسى عليهما السلام بحكم العلم، ولم يطلع على حكمه فعله، فلما أزهر له الحكمة أذعن؟ ولله المثل الأعلى. فإياك أن تقيس من أفعاله شيئا من أفعاله على أفعال الخلق، أو شيئا من صفاته سبحانه وتعالى. فإنك إن حفظت هذا سلمت من التشبيه الذي وقع فيه من رأى الاستواء اعتمادا، والنزول نقله، ونجوت من الاعتراض الذي أخرج قوما إلى الكفر حتى طعنوا في الحكمة. وأول القوم إبليس. فإنه رأى تقديم الطين على النار ليس بحكمة، فنسى أنه إنما علم ذلك بزعمه بالفهم الذي وهب له، والعقل الذي منحه فنسى أن الواهب أعلم أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة. ولقد رأيت لابن الرومي اعتراضا على من يقول بتخليد الكفار في النار قال: إن ذلك التأبيد مزيدا من الإنتقام ينكره العقل، وينبغي أن يقبل كل ما يقوله العقل، ولا يرد بعضه إذ ليس رد بعضه بأولى من رد الكل، وتخليد الكفار لا غرض فيه للمعذب ولا للمعذب فلا يجوز أن يكون. فقلت: العجب من الذي يدعي وجود العقل ولا عقل عنده. وأول ما أقول له: أصح عندك الخبر عن الخالق سبحانه أنه أخبر بخلود أهل النار أم لم يصح؟ فإن كان ما صح عنه فالكلام إذن في إثبات النبوة وصحة القرآن. فما وجه ذكر الفرع مع جحد الأصل؟ وإن قال: قد ثبت عندي، فواجب عليه أن يتمهل لإقامة العذر، لا أن يقف في وجه المعارضة. وإنما ينكر هذا من يأخذ الأمر من الشاهد، وقد بينا أن ذات الحق لا كالذوات، وأن صفته لا كالصفات، وأن أفعاله لا تعلل. ولو تلمح شيئا من التعليل لخلود الكفار لبان، إذ من الجائز أن يكون دوام تعذيبهم فظهار صدق الوعيد. فإنه قال: من كفر بي خلدته في العذاب ولا جناية كالكفر، ولا عقوبة كدوام الإحتراق، فهو يدوم ليظهر صدق الوعيد. ومن الجائز أن يكون ذلك لتتمة تنعيم المؤمنين فإنهم أعداء الكفار. وقد قال سبحانه: ويشف صدور قوم مؤمنين. وكم من قلق في صدر، وحنق على أبي جهل فيما فعل، وكم من غم في قلب عمار وأمه سمية وغيرهم من أفعال الكفار بهم. فدوام عذابهم شفاء لقلوب أهل الإيمان. ومن الجائز أن يدوم العذاب لدوام الاعتراض وذكر المعذب بما لا يحسن فكلما زاد عذابهم زاد كفرهم واعتراضهم فهم يعذبون لذلك. ودليل كفرهم فيحلفون له كما يحلفون لكم فإذن كفرهم ما زال، ومعرفتهم به ما حصلت، والشر كامن في البواطن، وعلى ذلك يقع التعذيب ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.