صيد الخاطر/فصل: في الفقر وأثره على العالم
فصل: في الفقر وأثره على العالم
ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للإستغناء عن الناس، فإنه إذا ضم إلى العلم حيز الكمال. وإن جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لا بد منه. وقل الصبر فدخلوا مداخل شانتهم وإن تأولوا فيها، إلا أن غيرها كان أحسن لهم. فالزهري مع عبد الملك، وأبو عبيدة مع طاهر بن الحسين، وابن أبي الدنيا مؤدب المعتضد، وابن قتيبة صدر كتابه بمدح الوزير. وما زال حلف من العلماء والزهاد يعيشون في ظل جماعة من المعروفين بالظلم. وهؤلاء وإن كانوا سلكوا طريقا من التأويل فإنهم فقدوا من قلوبهم وكمال دينهم أكثر مما نالوا من الدنيا. وقد رأينا جماعة من المتصوفة والعلماء يغشون الولاة لأجل نيل ما في أيديهم، فمنهم من يداهن ويرائي، ومنهم من يمدح بما لا يجوز، ومنهم من يسكت عن منكرات، إلى غير ذلك من المداهنات، وسببها الفقر. فعلمنا أن كمال العز وبعد الرياء إنما يكون في البعد عن العمال الظلمة، ولم نر من صح له هذا إلا في أحد رجلين: إما من كان له مال كسعيد بن المسيب كان يتجر في الزيت وغيره، وسفيان الثوري كانت له بضائع، وابن المبارك. وإما من كان شديد الصبر قنوعا بما رزق وإن لم يكفه كبشر الحافي، وأحمد بن حنبل. ومتى لم يجد الإنسان كصبر هذين، ولا كمال أولئك، فالظاهر تقلبه في المحن والآفات، وربما تلف دينه. فعليك يا طالب العلم بالاجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس، فإنه يجمع لك دينك، فما رأينا في الأغلب منافقا في التدين والتزهد والتخشع، ولا آفة طرأت على عالم إلا يجب الدنيا، وغالب ذلك الفقر، فإن كان له مال يكفيه ثم يطلب بتلك المخالطة الزيادة، فذلك معدود في أهل الشره، خارج عن حيز العلماء، نعوذ بالله من تلك الأحوال.