صيد الخاطر/فصل: بادر بطي صحيفتك
فصل: بادر بطي صحيفتك
عدلإنما خلقنا لنحيا مع الخالق في معرفته ومحادثته ورؤيته في البقاء الدائم. وإنما ابتدىء كوننا في الدنيا لأنها في مثال مكتب نتعلم فيه الخط والأدب ليصلح الصبي عند بلوغه للرتب. فمن الصبيان بعيد الذهن يطول مكثه في المكتب ويخرج وما فهم شيئا. وهذا مثال من لا يعلم وجوده، ولا نال المراد من كونه. ومن الصبيان من يجمع مع بعد ذهنه، وقلة فهمه وعدم تعلمه أذى الصبيان، فهو يؤذيهم، ويسرق مطاعمهم، ويستغيثون من يده، فلا هو صلح، ولا فهم ولا كف عن الشر. وهذا مثل أهل الشر والمؤذيين. ومن الصبيان من علق بشيء من الخط لكنه ضعيف الاستخراج رديء الكتابة، فخرج ولم يعلق إلا بقدر ما يعلق به حساب معاملته. وهذا مثل من فهم الشيء وفاتته الفضائل التامة. ومنهم من جود الخط ولم يتعلم الحساب، وأتقن الأدب حفظا، غير أنه قاصر في أدب النفس. فهذا يصلح أن يكون كائبا للسلطان على مخاطرة لسوء ما في باطنه من الشره وقلة التأدب. ومنهم من سمعت همته إلى المعالي الكاملة، فهو مقدم الصبيان في المكتب، ونائب عن معلمهم، ثم يرتفع عنهم بعزة نفسه، وأدب باطنه، وكمال صناعة الأدب الظاهرة. ولا يزال حاث من باطنه يحثه على تعجيل التعليم، وتحصيل كل فضيلة، لعمله أن المكتب لا يراد لنفسه بل لأخذ الأدب منه، والراحلة إلى حالة الرجولية والتصرف، فهو يبادر الزمان في نيل كل فضيلة. فهذا مثل المؤمن الكامل يسبق الأقران التجاري، ويعرض لوح عمله جيد الخط، فيقول بلسان حاله هاؤم اقرؤوا كتابيه. وكذلك الدنيا وأهلها. من الناس هالك بعيد عن الحق، وهم الكفار. ومنهم خاطئ مع قليل من الإيمان، فهو معاقب، والمصير إلى خير. ومنهم سليم، لكنه قاصر. ومنهم تام، لكنه بالإضافة إلى من دونه، وهو ناقص بالإضافة إلى من فوقه. فالبدار البدار يا أرباب الفهوم، فإن الدنيا معبر إلى دار إقامة، وسفر إلى المستقر والقرب من السلطان ومجاورته، فتهيئوا للمجالسة، واستعدوا للمخاطبة، وبالغوا في استعمال الأدب، لتصلحوا للقرب من الحضرة. ولا يشغلكم عن تضمير الخيل تكاسل، وليحملكم على الجد في ذلك تذكركم يوم السباق. فإن قرب المؤمنين من الخالق على قدر حذرهم في الدنيا. ومنازلهم على قدر، فما منزل النفاط كمنزل الحاجب، ولا منزل الحاجب كمكان الوزير. جنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما. وجنتان من فضة، آنيتهما، وما فيهما، والفردوس الأعلى لآخرين. والذين في أرض ينظرون أهل الدرجات كما يرون الكوكب الدري، فليتذكر الساعي حلاوة التسليم إلى الأمين. وليتذكر في لذاذة المدح يوم السباق. وليحذر المسابق من تقصير لا يمكن استدراكه. وليخف من عيب يبقى قبح ذكره. هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن، أزرى بهم اتباع الهوى، ثم لحقتهم العافية فنجوا بعد لأي، فليتعظ وليصبر عن المشتهي، فالأيام قلائل. يدخل فقراء المؤمنين قبل الأغنياء إلى الجنة بخمس مائة عام، فالجد الجد، بإقدام المبادرة. فقد لاح العلم خصوصا لمن بانت له بانة الوادي، إما بالعلم الدال على الطريق، وإما بالشيب الذي هو علم الرحيل، وهو ما يأمله أهل الجد. وكان الجنيد يقرأ وقت خروج روحه، فيقال له في هذا الوقت. فيقول: [ أبادر طي صحيفتي ]. وبعد هذا، فالمراد موفق، والمطلوب معان. وإذا أرادك لأمر هيأك له.