صيد الخاطر/فصل: بع دنياك بآخرتك
فصل: بع دنياك بآخرتك
من تأمل بعين الفكر دوام البقاء في الجنة في صفاء بلا كدر، ولذات بلا انقطاع، وبلوغ كل مطلوب للنفس، والزيادة مما لا عين رأت ـ ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من غير تغيير ولا زوال، إذ لا يقال ألف ألف سنة، ولا مائة ألف ألف، بل ولو أن الإنسان عد ألوف ألوف السنين لا ينقضي عدده وكان له نهاية، وبقاء الآخرة لا نفاد له. إلا أنه لا يحصل ذلك إلا بنقد هذا العمر. وما مقدار عمر غايته مائة سنة منها خمسة عشر صبوة وجهل، وثلاثون بعد السبعين ـ إن حصلت ـ ضعف وعجز. والتوسط نصفه نوم، وبعضه زمان أكل وشرب وكسب، والمنتحل منه للعبادات يسير. أفلا يشتري ذلك الدائم بهذا القليل؟ إن الإعراض عن الشروع في هذا البيع والشراء، لغبن فاحش في العقل، وخلل داخل في الإيمان بالوعد. [ فإن من يدري كيف يعقد البيع بالعلم ] هو الذي يدل على الطريق ويعرف ما يصلح لها ويحذر من فظاعتها. ولقد دخل إبليس على طائفة من المتزهدين بآفات أعظمها إن صرفهم عن العلم. فكأنه شرع في إطفاء المصباح ليسرق في الظلمة، حتى إنه أخذ قوما من كبار العلماء فسلك بهم من ذلك ما ينهى عنه العلم. فرأيت أبا أحمد الطوسي يحكي عن نفسه في بعض مصنفاته قال: شاورت متبوعا مقدما من الصوفية في المواظبة على تلاوة القرآن فمنعني منه، وقال: السبيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية، بحيث لا يلتفت قلبك إلى أهل وولد ومال وعلم، بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجود ذلك وعدمه. ثم تخلو بنفسك في زاوية، فتقتصر من العبادة على الفرائض والرواتب، وتجلس فارغ القلب، ولا تزال تقول: الله الله إلى أن تنتهي إلى حالة لو ترك تحريك اللسان رأيت كأن الكلمة جارية على لسانك، ثم تنظر ما يفتح عليك مما فتح مثله على الأنبياء والأولياء. قلت: وهذا أمر لا أتعجب أنا فيه من الموصي به وإنما أتعجب من الذي قبله مع معرفته وفهمه. وهل يقطع الطريق بالإعراض عن تلاوة القرآن؟ وهل فتح للأنبياء ما فتح بمجاهدتهم ورياضيتهم؟ وهل يوثق بما يظهر من هذه المسالك؟ ثم ما الذي يفتح؟ أثم اطلاع على علم الغيب أم هو وحي؟ فهذا كله من تلاعب إبليس بالقوم. وربما كان ما يتخايل لهم من أثر الماليخوليا أو من إبليس. فعليك بالعلم. وانظر في سير السلف هل فعل أحد منهم من هذا شيئا؟ أو أمر به؟ إنما تشاغلوا بالقرآن والعلم فدلهم على إصلاح البواطن وتصفيتها. نسأل الله عز وجل علما نافعا، للعدو مانعا، إنه قادر.