صيد الخاطر/فصل: الكمال للخالق وحده
فصل: الكمال للخالق وحده
عدلسألني سائل، قد قال بعض الحكماء: من لم يحترز بعقله هلك بعقله فما معنى هذا؟ فبقيت مدة لا ينكشف لي المعنى،ثم إتضح. وذلك أنه إذا طلبت معرفة ذات الخالق سبحانه من العقل فزع إلى الحس فوقع التشبيه. فالاحتراز من العقل بالعقل هو أن ينظر، فيعلم أنه لا يجوز أن يكون جسما، ولا شبها لشيء. وإذا نظر العاقل إلى أفعال الباري سبحانه، رأى أشياء لا يقتضيها العقل مثل الآلام، والذبح للحيوان وتسليط الأعداء على الأولياء، مع القدرة على المنع، والابتلاء بالمجاعة للصالحين، والمعاقبة على الذنب بعد البعد بزلة، وأشياء كثيرة من هذا الجنس يعرضها العقل على العادات في تدبيره، فيرى أنه لا حكمة تظهر له فيها. أن يقال له: أليس قد ثبت عندي أنه مالك وأنه حكيم وأنه لا يفعل فيقول: بلى. فيقال: فنحن نحترز من تدبيرك الثاني بما ثبت عندك في الأول. فلم يبق إلا أنه خفي عليك وجه الحكمة في فعله. فيجب التسليم له، لعلمنا أنه حكيم. حينئذ يذعن ويقول: قد سلمت. وكثير من الخلق نظروا لمقتضى واقع العقل الأول، فاعترضوا. حتى إن العامي يقول: كيف قصى على سوء عاقبتي؟ ولم ضيق رزقي؟ وما وجه الحكمة في إبتلائي بفنون البلاء؟ ولو أنه تلمح أنه مالك حكيم، لم يبق إلا التسليم لما خفي. ولقد أنس ببديهة العقل خلق من الأكابر أولهم إبليس، فإنه رأى تفضيل النار على الطين، فاعترض. ورأينا خلقا ممن نسب إلى العلم قد زلوا في هذا وإعترضوا، ورأوا أن كثيرا من الأفعال لا حكمة تحتها. والسبب ما ذكرنا، وهو الأنس بنظر العقل في البديهة والعادات، والقياس على أفعال المخلوقين. ولو استخرجوا علم العقل الباطن، وهو أنه قد ثبت الكمال للخالق، وانتفت عنه النقائض، وعلم انه حكيم لا يعبث، لبقي التسليم لما لا يعقل. واعتبر هذا بحال الخضر وموسى عليهما السلام، لما فعل الخضر أشياء تخرج عن العادات، أنكر موسى ونسي إعلامه له بأني أنظر فيما لا تعلمه من العواقب. فإذا خفيت مصلحة العواقب على موسى عليه السلام مع مخلوق، فأولى أن يخفى علينا كثير من حكمة الحكيم. وهذا أصل إن لم يثبت عند الإنسان أخرجه إلى الإعتراض والكفر، وإن ثبت إستراح عند نزول كل آفة.