صيد الخاطر/فصل: الغنى عما في أيدي الناس
فصل: الغنى عما في أيدي الناس
عدلرأيت نفرا ممن أفنى أوائل عمره وريعان شبابه في طلب العلم يصبر على أنواع الأذى، وهجر فنون الراحات، أنفة من الجهل، ورذيلته، وطلبا للعلم وفضيلته، فما نال منه طرفا رفعه عن مراتب أرباب الدنيا. ومن لا علم له إلا بالعاجل ضاق به معاشه أو قل ما ينشده لنفسه من حظوظ، فسافر في البلاد يطلب من الأرذال، ويتواضع للسفلة وأهل الدناءة والمكاس وغيرهم. فخاطبت بعضهم وقلت، ويحك أن تلك الأنفة من الجهل التي سهرت لأجلها، وأظمأت نهارك بسببها، فلما إرتفعت وإنتفعت عدت إلى أسفل سافلين. أفما بقي عندك ذرة من الأنفة تنبو بها عن مقامات الأرذال؟ ولا معك يسير من العلم يسير بك عن مناخ الهوى؟ ولا حصلت بالعلم قوة تجذب بها زمام النفس عن مراعي السوء؟ على أنه يبين لي أن سهرك وتعبك كأنهما كانا لنيل الدنيا. ثم إني أراك تزعم أنك تريد شيئا من الدنيا تستعين به على طلب العلم، فاعلم أن التفاتك إلى نوع كسب تستغني به عن الأرذال أفضل من التزيد في علمك. فلو عرفت ما ينقص به دينك لم تر فيما قد عزمت عليه زيادة، بل لعله كله مخاطرة بالنفس، وبذل الوجه طالما صين لمن لا يصلح إلتفات مثلك إلى مثله. وبعيد أن تقنع بعد شروعك في هذا الأمر بقدر الكفاف، وقد علمت ما في السؤال بعد الكفاف من الإثم. وأبعد منه أن تقدر على الورع في المأخوذ. ومن لك بالسلامة والرجوع إلى الوطن؟ وكم رمى قفر في بواديه من هالك. ثم ما تحصله يفني ويبقى منه ما أعطى، وعيب المتقين إياك، واقتداء الجاهلين بك. ويكفيك أنك عدت على ما علمت من ذم الدنيا بشينه إذ فعلت ما يناقضه، خصوصا وقد مر أكثر العمر. ومن أحسن فيما مضى يحسن فيما بقي.