صيد الخاطر/فصل: جلال العبادة وجمال العابدين
فصل: جلال العبادة وجمال العابدين
كلما أوغلت الفهوم في معرفة الخالق فشاهدت عظمته ولطفه ورفعته، تاهت في محبته، فخرجت عن حد الثبوت. وقد كان خلق من الناس غلبت عليهم محبته، فلم يقدروا على مخالطة الخلق. ومنهم من لم يقدر على السكوت عن الذكر. وفيهم من لم ينم إلا غلبة، وفيهم من هام في البراري، وفيهم من إحتراق في بدنه. فيا حسن مخمورهم ما ألذ سكره، ويا عيش قلقهم ما أحسن وجده..... كان أبو عبيدة الخواص قد غلبه الوجد فكان يمشي في الأسواق يقول: [ وا شوقاه إلى من يراني ولا أراه ]. وكان فتح بن سخرف يقول: قد طال شوقي إليك، فعجل قدومي عليك. وكان قيس بن الربيع كأنه مخمور من غير شراب. وكان ابن عقيل يقول إن التبذل فيه سبحانه أحسن من التجمل في غيره. هل رأيت قط عراة أحسن من المحرمين؟ هل رأيت للمتزينين برياش الدنيا سمتا كأثواب الصالحين؟ هل رأيت خمارا أحسن من نعاس المتهجدين؟ هل رأيت سكرا أحسن من صعق الواجدين؟ هل شاهدت ماء صافيا أصفى من دموع المتأسفين؟ هل رأيت رؤوسا مائلة كرؤوس المنكسرين؟ هل لصق بالأرض شيء أحسن من جباه المصلين؟ هل حرك نسيم الأسحار أوراق الأشجار فبلغ مبلغ تحريكه أذيال المتهجدين؟ هل ارتفعت أكف وإنبسطت أيد فضاهت أكف الراغبين؟ هل حرك القلوب صوت ترجيع لحن أو رنة وتر كما حرك حنين المشتاقين؟ وإنما يحسن التبذل في تحصيل أو في الأغراض. فلذلك حسن التبذل في خدمة المنعم.