صيد الخاطر/فصل: العقل بين التكليف والإذعان
فصل: العقل بين التكليف والإذعان
قلت يوما في مجلسي: لو أن الجبال حملت ما حملت لعجزت. فلما عدت إلى منزلي، قالت لي النفس: كيف قلت هذا؟ وربما أوهم الناس أن بك بلاء وأنت في عافية في نفسك وأهلك... وهل الذي حملت إلا التكليف الذي يحمله الخلق كلهم؟ فما وجه هذه الشكوى؟ فأجبتها: إني لما عجزت عما حملت، قلت هذه الكلمة لا على سبيل الشكوى، ولكن للاسترواح. وقد قال كثير من الصحابة والتابعين قبلي: ليتنا لم نخلق، وما ذاك إلا لأثقال عجزوا عنها. ثم من ظن أن التكاليف سهلة، فما عرفها. أتى يظن الظان أن التكاليف غسل الأعضاء برطل من الماء، أو الوقوف في محراب لأداء ركعتين؟ هيهات. هذا أسهل التكليف. وإن التكليف هو الذي عجزت عنه الجبال، ومن جملته: أنني إذا رأيت القدر يجري بما لا يفهمه العقل، ألزمت العقل الإذغان للمقدر، فكان من أصعب التكليف. وخصوصا فيما لا يعلم العقل، معناه كإيلام الأطفال، وذبح الحيوان، مع الاعتقاد بأن المقدر لذلك والأمر به، أرحم الراحمين. فهذا مما يتحير العقل فيه، فيكون تكليفه التسليم، وترك الاعتراض..... فكم بين تكليف البدن وتكليف العقل...؟. ولو شرحت هذا لطال، غير أني أعتذر عما قلته، فأقول عن نفسي وما يلزمني حال غيري. إني رجل حبيب إلي العلم من زمن الطفولة فتشاغلت به ثم لم يحبب إلى فن واحد منه، بل فنونه كلها. ثم لا تقتصر همتي في فن على بعضه، بل تروم استقصاءه. والزمان لا يسع، والعمر أضيق، والشوق يقوى، والعجز يظهر، فيبقى وقوف بعض المطلوبات حسرات. ثم أن العلم دلني على معرفة المعبود، وحثني على خدمته، ثم صاحت بي الأدلة عليه إليه، فوقفت بين يديه، فرأيته، في نعمه، وعرفته بصفاته، وعاينت بصيرتي من الطافه مادعاني إلى الهيمان في محبته، وحركني إلى التخلي لخدمته، وصار يملكني أمر كالوجد كلما ذكرته، فعادت خلوتي في خدمتي له أحلى عندي من كل حلاوة. فكلما ملت إلى الانقطاع عن الشواغل إلى الخلوة، صاح بي العلم أين تمضي؟ أتعرض عني وأنا سبب معرفتك به؟ فأقول له: كنت دليلا وبعد الوصول يستغني عن الدليل. قال: هيهات. كلما زدت، زادت معرفتك بمحبوبك، وفهمت كيف القرب منه. ودليل هذا أنك تعلم غدا، أنك اليوم في نقصان. أو ما تسمعه يقول لنبيه ﷺ وقل رب زدني علما. ثم ألست تبغي القرب منه؟ فاشتغل، بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق، على خلوات التعبد، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم؟ أما قال الرسول ﷺ، لعلي رضي الله عنه لأن يهدي الله بك رجلا، خير لك من حمر النعم؟. فلما فهمت صدق هذه المقالة، تهوست على تلك الحالة، وكلما تشاغلت بجمع الناس، تفرق همي. وإذا وجدت مرادي من نفعهم، ضعفت أنا، فأبقى في حيز التحير مترددا، لا أدري على أي القدمين أعتمد. فإذا وقفت متحيرا صاح العلم: قم لكسب العيال، وادأب في تحصيل ولد يذكر الله. فإذا شرعت في ذلك قلص ضرع الدنيا وقت الحلب، ورأيت باب المعاش مسدودا في وجهي، لأن صناعة العلم شغلتني عن تعلم صناعة. فإذا التفت إلى أبناء الدنيا، رأيتهم لا يبيعون شيئا من سلعها إلا بدين المشتري. وليت من نافقهم أو راءاهم نال من دنياهم، بل ربما ذهب دينه ولم يحصل مراده. فإن قال الضجر: اهرب. قال الشرع: كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت. وإن قال العزم: انفرد، قال: فكيف بمن تعول؟ فغاية الأمر أنني أشرع في التقلل من الدنيا، وقد ربيت في نعيمها. وغذيت بلبانها، ولطف مزاجي فوق لطف وضعه بالعادة. فإذا غيرت لباسي وخشنت مطعمي، لأن القوت لا يحتمل الانبساط، نفر الطبع لفراق العادة، فحل المرض فقطع عن واجبات، وأوقع في آفات. ومعلوم أن لبن اللقمة بعد التحصيل من الوجوه المستطابة، وتخشينها لمن لم يألف سعى في تلف النفس. فأقول: كيف أصنع وما الذي أفعل؟ وأخلو بنفسي في خلواتي، وأتزيد من البكاء على نقص حالاتي. وأقول: أصف حال العلماء، وجسمي يضعف عن إعادة العلم، وحال الزهاد، وبدني لا يقوى على الزهد، وحال المحبين ومخالطة الخلق تشتت همي، وتنقش صور المحبوبات من الهوى في نفسي، فتصدأ مرآة قلبي. وشجرة المحبة تحتاج إلى تربية في تربة طيبة تسقى ماء الخلوة من دولاب الفكرة. وإن آثرت التكسب لم أطق. وإن تعرضت لأنباء الدنيا ـ مع أن طبعي الأنفة من الذل وتديني يمنعني ـ فلا يبقى للميل مع هذين الجاذبين أثر. ومخالطة الخلق تؤذي النفس مع الأنفاس... ولا تحقيق التوبة أقدر عليه، ولا نيل مرتبة من علم أو عمل أو محبة يصح لي. فإذا رأيتني كما قال القائل:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
تحيرت في أمري، وبكيت على عمري، وأنادي في فلوات خلواتي بما سمعته من بعض العوام، وكأنه وصف حالي:
واحسرتي كم أداري فيك تعثيري مثل الأسير بلا حبل ولا سيري
ما حيلتي في الهوى قد ضاع تدبيري لما شكلت جناحي فلت لي طيري