صيد الخاطر/فصل: خطر الإشتغل بعلم الكلام دون علم
فصل: خطر الإشتغل بعلم الكلام دون علم
عدلقدم إلى بغداد جماعة من أهل البدع الأعاجم فارتقوا منابر التذكير للعوام فكان معظم مجالسهم أنهم يقولون: ليس الله في الأرض كلام، وهل المصحف إلا ورق وعفص وزاج، وإن الله ليس في السماء، وإن الجارية التي قال لها النبي ﷺ: أين الله؟ كانت خرساء فأشارت إلى السماء، أي ليس هو من الأصنام التي تعبد في الأرض. ثم يقولون: أين الحروفية الذين يزعمون أن القرآن حرف وصوت، هذا عبارة جبريل. فلما زالوا كذلك حتى هان تعظيم القرآن في صدور أكثر العوام، وصار أحدهم يسمع فيقول هذا هو الصحيح، وإلا فالقرآن شيء يجيء به جبريل في كيس. فشكا إلى جماعة من أهل السنة، فقلت لهم: إصبروا فلا بد للشبهات أن ترفع رأسها في بعض الأوقات وإن كانت مدموغة، وللباطل جولة، وللحق صولة، والدجالون كثر، ولا يخلو بلد ممن يضرب البهرج على مثل سكة السلطان. قال قائل: فما جوابنا عن قولهم؟ قلت: اعلم ـ وفقك الله تعالى ـ أن الله عز وجل ورسوله ﷺ قنعا من الخلق بالإيمان بالجمل ولم يكلفهم معرفة التفاصيل، إما لأن الإطلاع على التفاصيل يخبط العقائد، وإما لأن قوى البشر تعجز عن مطالعة ذلك. فأول ما جاء به الرسول ﷺ إثبات الخالق، ونزل عليه القرآن بالدليل على وجود الخالق بالنظر في صنعه، فقال تعالى: أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا. وقال تعالى: وفي أنفسكم أفلا تبصرون. وما زال يستدل على وجوده بمخلوقاته، وعلى قدرته بمصنوعاته، ثم أثبت نبوة نبيه بمعجزاته، وكان من أعظمها القرآن الذي جاء به، فعجز الخلائق عن مثله، وإكتفى بهذه الأدلة جماعة من الصحابة، ومضى على ذلك القرآن الأول والمشرب صاف لم يتكدر، وعلم الله عز وجل ما سيكون من البدع، فبالغ في إثبات الدلة وملأ بها القرآن. ولما كان القرآن هو منبع العلوم، وأكبر المعجزات للرسول، أكد الأمر فيه فقال تعالى وهذا كتاب أنزلناه مبارك وننزل من القرآن ما هو شفاء. فأخبر أنه كلامه بقوله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله. وأخبر أنه مسموع بقوله تعالى: حتى يسمع كلام الله. وأخبر أنه محفوظ فقال تعالى: في لوح محفوظ. وقال تعالى: بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم. وأخبر أنه مكتوب ومتلو، فقال تعالى: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك. إلى ما يطول شرحه من تعدد الآيات في هذه المعاني التي توجب إثبات القرآن. ثم نزه نبيه ﷺ عن أن يكون أتى من قبل نفسه. فقال تعالى: أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك. وتواعده لو فعل، فقال تعالى: ولو تقول علينا بعض الأقاويل. وقال في حق الزاعم إنه كلام الخلق حين قال: إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر. ولما عذب كل أمة بنوع عذاب تولاه بعض الملائكة كصيحة جبريل عليه السلام بثمود، وإرسال الريح على عاد، والخسف بقارون، وقلب جبريل ديار قوم لوط عليه السلام، وإرسال الطير الأبابيل على من قصد تخريب الكعبة. وتولى هو بنفسه عقاب المكذبين بالقرآن، فقال تعالى: ذرني ومن يكذب بهذا الحديث ذرني ومن خلقت وحيدا. وهذا لأنه أصل هذه الشرائع والمثبت لكل شريعة تقدمت. فإن جميع الملل ليس عندهم ما يدل على صحة ما كانوا فيه إلا كتابنا، لأن كتبهم غيرت وبدلت. وقد علم كل ذي عقل أن القائل: إن هذا إلا قول البشر إنما أشار إلى ما سمعه. ولا يختلف أولو الألباب وأهل الفهم للخطاب، أن قوله وإنه كناية عن القرآن، وقوله: نزل به كناية أيضا عنه، وقوله: هذا كتاب إشارة إلى حاضر. وهذا أمر مستقر لم يختلف فيه أحد من القدماء في زمن الرسول ﷺ والصحابة رضوان الله عليهم، ثم دس الشيطان دسائس البدع، فقال قوم: هذا المشار إليه مخلوق، فثبت الإمام أحمد رحمه الله ثبوتا لم يثبته غيره على دفع هذا القول، لئلا يتطرق إلى القرآن ما يمحو بعض تعظيمه في النفوس، ويخرجه عن الإضافة إلى الله عز وجل. ورأى أن إبتداع ما لم يقل فيه لا يجوز إستعماله فقال: كيف أقول ما لم يقل. ثم لم يختلف الناس في غير ذلك، إلى أن نشأ علي بن إسماعيل الأشعري فقال مرة بقول المعتزلة، ثم عن له فإدعى أن الكلام صفة قائمه بالنفس، فأوجبت دعواه هذه أن ما عندنا مخلوق. وزادت فخبطت العقائد فما زال أهل البدع يجوبون في تيارها إلى اليوم. والكلام في هذه المسألة مرتب بذكر الحجج والشبه في كتب الأصول، فلا أطيل به ههنا، بل أذكر لك جملة تكفي من أراد الله هداه،و هو أن الشرع قنع منا بالإيمان جملة، وبتعظيم الظواهر، ونهى عن الخوض فيما يتير غبار شبهة، ولا تقوى على قطع طريقه أقدام الفهم. وإذا كان قد نهى عن الخوض في القدر فكيف يجوز الخوض في صفات المقدر؟.. وما ذاك إلا لأحد الأمرين اللذين ذكرتهما، إما لخوف إثارة شبهة تزلزل العقائد، أو لأن قوى البشر تعجز عن إدراك الحقائق. فإذا كانت ظواهر القرآن تثبت وجود القرآن فقال قائل:ليس ههنا قرآن، فقد رد الظواهر التي تعب الرسول ﷺ في إثباتها، وقرر وجودها في النفوس. وبماذا يحل ويحرم، ويبت ويقطع، وليس عندنا من الله تعالى تقدم بشيء. وهل للمخالف دليل إلا أن يقول: قال الله فيعود فيثبت ما نفى؟ فليس الصواب لمن وفق إلا الوقوف مع ظاهر الشرع، فإن إعترضه ذو شبهة فقال: هذا صوتك وهذا خطك، فأين القرآن؟ فليقل له: قد أجمعنا أنا وأنت على وجود شيء به نحتج جميعا. وكما أنك تنكر على أن أثبت شيئا لا يتحقق لي إثباته حسا، فأنا أنكر عليك كيف تنفي وجود شيء قد ثبت شرعا. وأما قولهم: هل في المصحف إلا ورق وعفص وزاج، فهذا كقول القائل: هل الآدمي إلا لحم ودم؟ هيهات أن معنى الآدمي هو الروح، فمن نظر إلى اللحم والدم وقف مع الحس. فإن قال: فكذا أقول إن المكتوب غير الكتابة: قلنا له: وهذا مما ننكره عليك لأنه لا يثبت تحقيق هذا لك ولا لخصمك، فإن أردت بالكتابة الحبر وتخطيطه فهذا ليس هو القرآن، وإن أردت المعنى القائم بذلك فهذا ليس هو الكتابة. وهذه الأشياء لا يصلح الخوض فيها، فإن ما دونها لا يمكن تحقيقه على التفصيل كالروح مثلا، فإنا نعلم وجودها في الجملة، فأما حقيقتها فلا. فإذا جهلنا حقائقها كنا لصفات الحق أجهل، فوجب الوقوف مع السمعيات، مع نفي ما لا يليق،لأن الخوض يزيد الخائض تخبيطا ولا يفيده تحصيلا، بل يوجب عليه نفي ما يثبت بالسمع من غير تحقيق أمر عقلي، فلا وجه للسلامة إلا طريق السلف والسلام. وكذلك أقول إن إثبات الإله بظواهر الآيات والسنن ألزم للعوام من تحديثهم بالتنزيه، وإن كان التنزبه لازما. وقد كان ابن عقيل يقول: [ الأصلح فعتقاد العوام ظواهر الآي والسنن، لأنهم يأنسون بالإثبات، فمتى محونا ذلك من قولبهم زالت السياسات والحشمة ]. وتهافت العوام في الشبهة أحب إلي من إغراقهم في التنزيه، لأن التشبيه يغمسهم في الإثبات، فيطمعوا ويخافوا شيئا قد أنسوا إلى ما يخاف مثله ويرجى. فالتنزيه يرمي بهم إلى النفي، ولا طمع ولا مخافة من النفي. ومن تدبر الشريعة رآها عامة للمكلفين في التشبيه بالألفاظ التي لا يعطي ظاهرها سواه كقول الأعرابي: أو يضحك ربنا؟ قال: نعم، فلم يكفر من هذا القول.