صيد الخاطر/فصل: في عدم الصبرعن المشتهى الهلاك
فصل: في عدم الصبرعن المشتهى الهلاك
عدللما جمعت كتابي المسمى بالمنتظم في تاريخ الملوك والأمم، إطلعت على سير الخلق من الملوك والوزراء والعلماء والأدباء والفقهاء والمحدثين والزهاد وغيرهم، فرأيت الدنيا قد تلاعبت بالأكثرين تلاعبا أذهب أديانهم، حتى كانوا لا يؤمنون بالعقاب. فمن الأمراء من يقتل ويصادر، ويقطع ويحبس، بغير حق، ثم ينخرط في سلك المعاصي، كأن الأمر إليه، أو قد جاءه الأمن من العقاب. فربما تخايل أن حفظي الرعايا يرد عني، وينسي أنه قد قيل لرسول الله ﷺ: قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. وقد انخرط جماعة ممن يتسم بالعلم في سلك المعاصي، لتحصيل أغراضهم العاجلة فما نفعهم العلم. ورأينا خلقا من المتزهدين خالفوا لنيل أغراضهم، وهذا لأن الدنيا فخ والناس كعصافير، والعصفور يريد الحبة وينسى الخنق. قد نسي أكثر الخلق مآلهم ميلا إلى عاجل لذاتهم، فأقبلوا يسامرون الهوى ولا يلتفتون إلى مشاورة العقل. فلقد باعوا بلدة يسيرة خيرا كثيرا، وإستحقوا بشهوات مرذولة عذابا عظيما. فإذا نزل بأحدهم الموت قال: ليتني لم أكن، ليتني كنت ترابا، فيقال له: الآن؟ فوا أسفي لفائت لا يمكن استدراكه، ولمرتهن لا يصح فكاكه، ولندم لا ينقطع زمانه، ولمعذب عز عليه إيمانه بالله. ما نفعت العقول إلا لمن يلتفت إليها ويعول عليها. ولا يمكن قبول مشاورها إلا بعزيمة الصبر عما يشتهي. فتأمل في الأمراء عمر بن الخطاب وابن عبد العزيز رضي الله عنهما، وفي العلماء أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وفي الزهاد أويس القرني. لقد أعطوا الجد حقه وفهموا مقصود الوجود. وما هلك الهالكون إلا لقلة الصبر عن المشتهى. وربما كان فيهم من لا يؤمن بالبعث والعقاب. وليس العجب من ذاك، إنما العجب من مؤمن يوقن، ولا ينفعه يقينه، ويعقل العواقب ولا ينفعه عقله.