صيد الخاطر/فصل: المن بالعبادة
فصل: المن بالعبادة
عدلتأملت قوله عز وجل: يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان فرأيت فيه معنى عجيبا. وهو أنهم لما وهبت لهم العقول فتدبروا بها عيب الأصنام، وعلموا أنها لا تصلح للعبادة، فوجهوا العبادة إلى من فطر الأشياء، كانت هذه المعرفة ثمرة العقل الموهوب الذي به باينوا البهائم. فإذا آمنوا بفعلهم الذي ندب إليه العقل الموهوب، فقد جهلوا قدر الموهوب، وغفلوا عن وهب. وأي شيء لهم في الثمرة والشجرة ليس ملكا لهم؟ فعلى هذا كل متعبد ومجتهد في علم إنما رأى بنور اليقظة، وقوة الفهم والعقل صوابا،فوقع على المطلوب، فينبغي أن يوجه الشكر إلى من بعث له في ظلام الطبع القبس. ومن هذا الفن حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار، فانحطت عليهم صخرة فسدت باب الغار، فقالوا: تعالوا نتوسل بصالح أعمالنا، فقال كل منهم: فعلت كذا وكذا. وهؤلاء إن كانوا لاحظوا نعمة الواهب للعصمة عن الخطأ فتوسلوا بإنعامه عليهم الذي أوجب تخصيصهم بتلك النعمة عن أبناء جنسهم، فبه توسلواإليه. وإن كانوا لا حظوا أفعالهم، فلمحوا جزاءها ظنا منهم أنهم هم الذين فعلوا فهم أهل غيبة لا حضور. ويكون جواب مسألتهم لقطع مننهم الدائمة. ومثل هذا رؤية المتقي تقواه حتى إنه يرى أنه أفضل من كثير من الخلق. وربما احتقر أهل المعاصي وتشمخ عليهم. وهذه غفلة عن طريق السلوك، وربما أخرجت. ولا أقول لك خالط الفساق احتقارا لنفسك. بل أغضب عليهم في الباطن وأعرض عنهم في الظاهر. ثم تلمح جريان الأقدار عليهم. فأكثرهم لا يعرف من عصى. وجمهورهم لا يقصد العصيان، بل يريد موافقة هواه، وعزيز عليه أن يعصي. وفيهم من غلب تلمح العفو والحلم فاحتقر ما يأتي لقوة يقينه بالعفو. وهذه كلها ليست بأعذار لهم، ولكن تلمحه أنت يا صاحب التقوى، واعلم أن الحجة عليك أوفى من الحجة عليهم، لأنك تعرف من تعصى، وتعلم ما تأتي. بل انظر إلى تقليب القلوب بين إصبعين فربما دارت الدائرة فصرت المنقطع ووصل المقطوع. فالعجب ممن يدل بخير عليه، وينسى من أنعم ووفق.