صيد الخاطر/فصل: ومن يتق الله يجعل له مخرجا
فصل: ومن يتق الله يجعل له مخرجا
عدلمن العجيب سلامة دين ذي العيال إذا ضاق به الكسب، فما مثله إلا كمثل الماء إذا ضرب في وجهه سكر، فإنه يعمل باطنا ويبالغ حتى يفتح فتحة. فكذلك صاحب العيال إذا ضاق به الأمر لا يزال يحتال، فإذا لم يقدر على الحلال، ترخص في تناول الشهيات، فإن ضعف دينه مد يده إلى الحرام. فالمؤمن إذا علم ضعفه عن الكسب إجتهد في التعفف عن النكاح، وتقليل النفقة إذا حصل الأولاد، والقناعة باليسير. فأما من ليس له كسب كالعلماء والمتزهدين، فسلامتهم ظريفة، إذ قد إنقطعت موارد السلاطين عنهم، ومراعاة العوام لهم، فإذا كثرت عائلتهم لم يؤمن عليهم شر ما يجري على الجهال. فمن قدر منهم على كسب بالنسخ وغيره فليجتهد فيه مع تقليل النفقة والقناعة باليسير. فإنه من ترخص منهم اليوم أكل الحرام، لأنه يأخذ من الظلمة خصوصا بحجة التنمس والتزهد. ومن كان له منهم مال فليجتهد في تنميته وحفظه، فما بقي من يؤثر ولا من يقرض. وقد صار الجمهور بل الكل كأنهم يعبدون المال، فمن حفظه حفظ دينه. ولا يلتفت إلى قول الجهلة الذين يأمرون بإخراج المال، فما هدا وقته. واعلم أنه إذا لم يجتمع الهم، لم يحصل العلم ولا العمل ولا التشاغل بالفكر في عظمة الله. وقد كان هم القدماء يجتمع بأشياء جمهورها أنه كان لهم من بيت المال نصيب في كل عام. وكان يصلهم فيفضل عنهم. وفيهم من كان له مال يتجر به كسعيد بن المسيب، وسفيان، وابن المبارك، وكان همه مجتمعا، وقد قال سفيان في ماله: [ لو لاك لتمندلوا بي. ]. وفقدت بضاعة [ لا بن المبارك ] فبكى وقال: [ هو قوام ديني ]. وكان جماعة يسكنون إلى عطاء الإخوان الذين لا يمنون. وكان ابن المبارك يبعث إلى الفضل وغيره، وكان الليث بن سعد يتفقد الأكابر، فبعث إلى مالك ألف دينار، وإلى ابن لهيعة ألف دينار، وأعطى منصور بن عمار ألف دينار وجارية بثلاثمائة دينار. وما زال الزمان على هذا إلى أن آل الأمر إلى إنمحاق ذلك، فقلت عطايا السلاطين، وقل من يؤثر من الإخوان. إلا أنه كان في ذلك القليل ما يدفع الزمان. فأما زماننا هذا، فقد إنقبضت الأيدي كلها، حتى قل من يخرج الزكاة الواجبة، فكيف يجتمع هم من يريد من العلماء والزهاد أن يعمل همه ليلا ونهارا في وجوه الكسب وليس من شأنه هذا ولا يهتدي له. فقد رأينا الأمر أخرج إلى التعرض للسلاطين والترخص في أخذ ما لا يصلح وأخرج المتزهدين إلى التصنع لتحصيل الدنيا. فالله الله يا من يريد حفظ دينه، قد كررت عليك الوصية بتقليل جهدك، وخفف العلائق مهما أمكنك، وإحتفظ بدرهم يكون معك فإنه دينك، وإفهم ما قد شرحته، فإن ضجت النفس لمراداتها فقل لها: إن كان عندك إيمان فأصبري، وإن أردت التحصيل لما يفنى ببذل الدين فما ينفعك. فتفكري في العلماء الذين جمعوا المال من غير وجهه وفي المنمسين ذهب دينهم، وزالت دنياهم. تفكري في العلماء الصادقين كأحمد وبشر، إندفعت الأيام وبقي لهم حسن الذكر. وفي الجملة ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب. ورزق الله قد يكون بتيسير الصبر على البلاء والأيام تندفع. وعاقبة الصبر الجميل جميلة.